معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

أسفار السقوط.. من القاهرة
02/07/2023

أسفار السقوط.. من القاهرة

احمد فؤاد 

ويكون عامٌ.. فيه تحترقُ السنابلُ والضروعْ
تنموا حوافرنُا ـــ مع اللعنات ـــ من ظمأٍ وجوعْ
يتزاحفُ الاطفالُ في لعق الثرى!
ينمو صَديدُ الصّمغ في الأفواهِ
في هُدب العيون.. فلا ترى!

أمل دنقل- الشاعر العربي

لا صوت يعلو في القاهرة فوق صوت صندوق النقد الدولي، وسط أزمة اقتصادية مثل إعصار مدمر، نقف في دائرته المركزية، ونتمنى أن يمر، ولا نتبين مدى الخسائر وعمقها سوى بعد أن يبتعد ويغادر، الجميع بات يعلم أن المستقبل بهذه الإدارة مستحيل، وحتى الرهان على الوقت رفاهية لم يعد أحد يمتلكها، والمناسبات الدينية التي كانت أيامًا للفرج والاستبشار تحولت إلى هم جماعي بلون قهوة العزاء المرة.

خلال موسم عيد الأضحى، الحالي، كشفت شعبة القصابين بالغرفة التجارية بالقاهرة عن تراجع استهلاك المصريين من اللحوم بنسبة 80% بالمقارنة بالعام الماضي، والغريب أن الأرقام الجديدة لا تقارن بالغير، في مجتمع يعجز ثلثه عن ضمان الحد الأدنى المطلوب من غذائه اليومي، الأساسي والضامن لاستمرار الحياة بحد ذاتها، والموقف كله استمرار لأزمة وجود تعاني منها البلد، في ظل سياسات مروعة دعمت التفاوت الطبقي، وميزت أقلية محظوظة، ورهنت مقدرات البلاد وثرواتها وكل غال ونفيس فيها لصالح إرادة واحدة نافذة، هي إرادة صندوق النقد الدولي.

صحيح أن الغضب ملحوظ في مصر، صار على الألسنة بعد أن ظل مكتومًا في الصدور، لكن الواضح أيضًا أن ثمرته لم تنضج بعد، والحمل لا يزال مجهولًا، وصوت الإعلام الرسمي الفاقع لم يعد يستطيع كبح ما هو محفور على جبين الأيام، وحتى الحل المتمثل في طرح كل ما يمكن بيعه للمستثمرين الخليجيين خصوصًا لم يعد كافيًا لوقف ارتفاع رصيد القلق العام، إذ أن تجربة النظام المصري مع حزم التمويلات الهائلة التي حصل عليها سابقًا ليست مبشرة على الإطلاق. 

ما أشعل فتيل الحوار حول الكارثة الاقتصادية القائمة، هو تصريحات لمديرة صندوق النقد الدولي، كريستينا جورجيفا، بأنها تثق في أن الحكومة المصرية ستتخذ القرار الصحيح في ظل أزمتها الاقتصادية، والقرار المقصود هو التحرير الكامل لسعر صرف الجنيه المصري، قرار قد يشعل كل شيء فجأة، وعلى رؤوس الجميع، هذا ليس تحليلًا، وإنما اختصار لما قاله السيسي في واحدة من احتفالاته العديدة، بأن سعر الصرف أمن قومي، وهو لن يقبل بإتخاذ قرار يحيل حياة شعبه إلى بؤس أو جحيم.

الحقيقة الوحيدة القائمة في مصر هي أن هناك أسباب عديدة قد تدفع الناس إلى ترديد شعارات التغيير والانتفاض، من ضيق المعايش إلى ضغط الظروف الحياتية وتأثيرها على قدرة الناس على تحقيق أمنها الاجتماعي، فوق التفكير في تطلعات ترتقي بها درجة أو درجتين على السلم، لكن كلها تبقى محصورة في هذا الهدف، دون النظر للواقع أو الأسباب التي أدت بالفعل إلى حالة الحصار التي نعايشها كشعوب عربية، ودون التفات إلى صانعها وفارضها الأول، والمستفيد منها.

الصانع والمستفيد بشكل مباشر، والمخطط الأول لعمليات الحصار الخانقة التي تمسك بتلابيب الشعوب العربية والإسلامية، هي الولايات المتحدة الشيطان الأكبر، وما يثير الحزن ـــ وأحيانًا القرف ــــ هو أنها وعن طريق أدواتها الداخلية والإقليمية وأذرع سيطرتها الإعلامية الممتدة كنسيج من شبكة صياد متمرس، تحقق أقصى استفادة لها حين تقرر الجماهير أن تتمرد على كل هذه الأوضاع.

وإلى حديث الأرقام، التي ترسم وحدها الواقع مجردًا من شبهة النفاق أو التجني، وتملك قدرة التعبير بأبلغ ما تفعل الحروف والكلمات، تغيرت مصر خلال 10 أعوام بأكثر مما فعلت خلال نصف القرن الأخير، تغيرًا كان للأسف أسوأ مما يمكن أن يرسمه أي كابوس، معدلات فقر التهمت ما كانت طبقة وسطى تمامًا، ونسب بطالة تنافس أتعس دول العالم، ومعدلات تضخم قياسية، بلغت في بعض السنوات ما يتجاوز 33%، وهي أعلى نسبة قد سجلت في تاريخ مصر إبان الحرب العالمية الثانية، وتدور حاليًا الأرقام الرسمية ـــ الزائفة ــــ حول 15% فقط منذ بداية العام الحالي، وارتفاعًا في الأسعار بات يحرم الغالبية العظمى من مواطنيها من الحصول على الكفاية الأساسية المطلوبة أو المفترضة من الغذاء اليومي اللازم، والأساسي لاستمرار الحياة بحد ذاتها، وفوق كل شيء بات موقعها ومستقبلها كله مهددًا بفعل سياسة هوجاء، فاقت ما كان يحدث في أسوأ سنوات السادات بؤسًا.

ووصلت البلد إلى الحد الذي أنخرطت فيه تحت وطأة الفشل اليومي في الإدارة لدائرة سيطرة كاملة لصندوق النقد الدولي، الذراع الأميركي المفضل في العمل، لترتفع المديونية المصرية إلى حدود قياسية، وارتفعت الديون الخارجية فقط من 36 مليار دولار فقط يوم رحيل مبارك إلى 157 مليارًا حاليًا، وكذلك شهدت الديون الداخلية قفزتها الكبرى من 1.5 تريليون جنيه إلى ما يزيد عن 4 تريليونات حاليًا، وبشكل عام اقتربت المديونية من الوصول إلى نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالنسبة للدولار الذي يعد أساسًا للأسعار في أسواق دولة تستورد كل غذائها وأغلب استهلاكها، فقد ارتفع من حاجز 6 جنيهات/ للدولار فقط في 2011 إلى 31 حاليًا، بعد ضربة التعويم الأخيرة في كانون الثاني/ يناير من العام الحالي، وإلى ما فوق 40 جنيهًا/ للدولار بالسوق الموازية، وفوق كل هذا الأرقام المروعة، فإن الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي تهاوى من 36.1 مليار دولار في 2011 إلى نحو 34 مليارًا اليوم، تمثل الودائع الخليجية فيه 75%، طبقًا لبيانات البنك المركزي الرسمية، أي أن مصر لن تملك أية قدرة على المناورة  ــــ في حال الإقدام على قرار تحرير سعر الصرف ـــ لإنها لا تملك في الواقع احتياطيات تستطيع الضخ منها إلى السوق لمواجهة الالتزامات.

وفوق كل المصائب الحادثة، فقد جاء الاتفاق الأخير للنظام المصري مع صندوق النقد الدولي، على شاكلة اتفاقات تسليم مدن الأندلس قديمًا من ملوك الطوائف الخونة إلى الممالك الإسبانية، اتفاق خضوع وإذعان واستسلام كامل دون قيد أو شرط، وتجرأ الصندوق على نشر فقراته في حضور وزراء النظام المصري، ووصل إلى القول صراحة في إحدى فقراته، الفقرة العاشرة نصًا: "سيلعب شركاء مصر الدوليون والإقليميون دورًا حاسمًا في تسهيل تنفيذ سياسات السلطات وإصلاحاتها"!.

الانعكاس الآخر لحديث مديرة صندوق النقد، كان على المعارضة، التي لا تختلف عن النظام، وجوه متعددة يحركها لاعب واحد، فقد أعلنت بعض الأحزاب المصرية المنضوية تحت لواء " التيار المدني الديمقراطي" عن تشكيل "التيار الليبرالي الحر" الذي يضم شخصيات ومؤسسات فاعلة في تجمع المعارضة الرئيس، عدا عن أحزاب اليسار، وطالب التيار الجديد في بيان إعلان تأسيسه عن ضرورة "الإصلاح الكامل" للاقتصاد بما يشمل خروج الدولة بشكل تام من خانة الفاعل، وترك الأمر للقطاع الخاص يرعى مستقبل البلد ويرسمه وينفذه، طبعًا إن أراد وإن تفضل.

فات على مؤسسي التيار الليبرالي الجديد أنهم لا يقدمون في الواقع جديدًا، فالأنظمة المصرية المتتابعة، منذ السادات وإلى اليوم، منخرطة بشكل كامل في تنفيذ وصفات الإصلاح المطلوبة والمفروضة من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين، وأنه منذ إعلان سيئ الاسم والذكر عن "ورقة أكتوبر" للإصلاح الاقتصادي في 1974، ولمدة 49 سنة، كانت إدارة البلد واقتصادها في يد موظفي واشنطن، لكن الفارق الحقيقي بين ما كان وما أصبحنا عليه، هو أن البلد لم تعد تمتلك أوراقًا رابحة لتبيعها، والسقوط منذ اليوم الأول كان تراجعًا وتنازلًا مقدمًا عن كل شيء وأي شيء.

فات على وجوه واشنطن الجديدة أن الأزمة الحالية هي نتيجة مباشرة وكاملة للوصفة الأميركية بالإصلاح الاقتصادي، وهي ما جنيناه فعلًا من "وعود الرخاء" بمفردات السادات، أو "بكرة تشوفوا مصر" بلسان السيسي، وأن كل دولة في العالم سارت على هذه الوصفة لم تلق إلا في نهاية الطريق سوى سراب مرير، وأن صندوق النقد قد أشاد في مرات كثيرة بالإصلاح والحكومة، والبنك الدولي وصل إلى وصف الحال بقوله: "بدأت مصر الآن في جني ثمار برنامج الإصلاح الاقتصادي التحوّلي، واستعادت استقرار الاقتصاد الكلي وثقة السوق إلى حد كبير، واستؤنف النمو الاقتصادي، وتحسنت حسابات المالية العامة، ومن المتوقع أن تنخفض نسبة الدين العام لأول مرة خلال عشر سنوات"، بالتحديد في تقريره عن آفاق النمو الاقتصادي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018.

في الواقع فإن صورة مصر اليوم تقدم التلخيص الأوفى لعملية خسارة مجتمع كان واعدًا، لصالح دولة أقلية مرتبطة بالأميركي، وهذه الخسارة تعود أساسًا إلى فعلين أكمل كل منهما الآخر، عزل مصر عن عالمها العربي الواسع، وربطها بمعاهدة الذل مع العدو الصهيوني، بعدها قامت الأذرع الأميركية بإعادة بناء البلد كإدارة تتبع واشنطن وتعتبرها قبلة العقيدة والحلم، تعبد ما يخرج من واشنطن، فسارت في طريق التراجع العاجز المساوم المستمر منذ 1974، وإلى اليوم، لا أحد يعرف يقينًا إلى أين يصل هذا التراجع كله، لكنه في النهاية يقدم العبرة لغيرها، هذا هو نهاية الطريق الأميركي الوحيد.

ولنترك أرقام موازنة العام المالي الجديد 2023/2024، تحكم وحدها، فقد رصدت الحكومة المصرية في مشروع الموازنة الذي أقره البرلمان كالعادة، مبلغ 2.1421 تريليون جنيه لسداد أقساط وفوائد القروض، الرقم المذهل وغير المسبوق يمثل 113% من إجمالي الإيرادات العامة، أي أن كل دخل مصر لن يكفيها فقط لسداد الديون، ويمثل نسبة 81.5% من جملة المصرفات المخططة، أي أن كل ما يتعلق بالدولة في مصر من خدمات صحة ـــ تعليم ــــ أمن ــــ دفاع ــــ نفقات ــــ استثمارات سيحصل مجتمعًا على أقل من خُمس بنود المصروفات بينما يذهب الدخل كله للخارج عبر مصروفات القروض، وكفى بهذا الرقم وحده حكمًا نهائيًا على المسيرة السعيدة.

صندوق النقد الدوليالبنك الدوليالدولرة

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة