معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

الإمام الخميني: الثائر الزاهد
16/06/2023

الإمام الخميني: الثائر الزاهد

حسن نعيم

كان الطقس خريفيًا في شارع "ولي عصر" والريح الخفيفة تعبث بأوراق الرصيف الصفراء عندما وصلت إلى  طهران في ذلك اليوم من أيلول/ سبتمبر عام ٢٠٠٢ موفدا من قبل جريدة "العهد" لتغطية فعاليات مئوية الإمام الخميني(قده) من احتفالات ومؤتمرات ومعارض وأنشطة مختلفة. كان علي أن أتوجه مباشرة من مطار "مهرآباد" إلى شمالي طهران لمقابلة آية الله توسلي مدير مكتب الإمام الراحل وأسجل تجربته المديدة في خدمة الثورة الإسلامية مديرا لمكتب قائدها وزعيمها الإمام الخميني الراحل.

لم يكن في أشياء المكتب بعد رحيل الإمام ما يمكن أن ينسيك حضوره القوي. تجتاز الحديقة المفعمة بالخضرة، المليئة بالأشجار الباسقة التي تغادرها أوراقها مع كل هبة نسيم . تدخل الرواق المليء بالنوافذ المطلة على الحديقة. يؤذن لك بالدخول إلى غرفة مفروشة بقطع السجاد المحلية الصنع التي أتقن النساج الإيراني حياكتها بصبره وأناته المعهودين. يرحب آية الله توسلي بضيوفه القادمين من لبنان العزيز على قلبه شاكرا لهم تكبدهم عناء السفر، ثم يعود إلى جلسته الأولى، يلملم أطراف عباءته، يستوي في جلسته على فراش اسفنجي سميك خلف سنادة خشبية كتلك التي كان يضعها الإمام الخميني اثناء تحضيره لدروسه ايام الدروس الحوزوية النجفية.  

في أعلى الجدار، وفوق رأس مدير المكتب المسؤول عن حفظ آثار الإمام استرعى انتباهي صورة للراحل الكبير وهو يقف في غاية الاطمئنان والتواضع أمام "السماور" يحضر الشاي. كل ما في المكان يمنحك شعورا بروحانية تلهج بها حتى الجدران ويحفزك على الاستفادة من هذا اللقاء، والدخول في اللحظات الحرجة من عمر الثورة، والاقتراب أكثر من مناخات الإمام واصطياد اللحظات الهاربة من دفاتر الزمن، والتقاط ما يمكن التقاطه من المسكوت عنه في أروقة القرار ومما لم تتداوله في حينه وسائل الإعلام.
   
سألته قبل بدء الحوار عن تلك الصورة المعلقة فوق رأسه فتوسع آية الله توسلي في الحديث عن زهد الإمام، وأطاح بأسئلتي التي سهرت الليل على تحضيرها وأنا لا أتقن اللغة الفارسية كي أمتلك ناصية الحوار وأقود مساراته، وانما كان يتولى الترجمة طالب لبناني يدرس في جامعات طهران، كان خجولا حييا أكثر مني. فضلا عن هيبة الرجل التي لا تتيح للمحاور مقاطعته كلما شعر أن القطار يبتعد عن السكة المرسومة. حينها فضلت الاصغاء على المقاطعة والمشاكسة مستسلما بسعادة غامرة لتلك الموجة الروحانية العالية التي اجتاحتني وهو يتحدث عن الابعاد المعنوية في شخصية الإمام، فرأيت أن أجاريه منساقا لعبير المعنويات المنبعثة من بساتين الذاكرة الطرية للرجل القريب جداً من الإمام حد الملازمة.

وفي إطار سعي آية الله توسلي للتبحر في زهد الإمام طلب من شاب يعمل في المكتب صورة أخرى للامام وهو يخصف نعلاً بلاستيكية، نظر إلى الصورة طويلاً وناولني اياها ثم اغرورقت عيناه بالدموع.

طغى البعد الثقافي التوحيدي في شخصية الإمام الخميني(قده) على الحديث، وروى لنا آية الله توسلي قصة الحديث الذي دار بين الإمام وآية الله صانعي عندما عزا الإمام تأخر انتصار الثورة لأكثر من خمسة عشر عاما لكلمة قالها لآية الله صانعي مفادها اعتماده على المؤيدين والمناصرين والشعب في عرض التوكل على الله، وبرأيه ـ أي برأي الإمام ـ كان ذلك يقدح في التوكل على الله الذي اتخذه منهجاً ورؤية وسلوكاً في الحياة. واستذكر آية الله توسلي جواب الإمام لذلك الصحافي الذي سأله أثناء عودته من منفاه الفرنسي إلى إيران، عن شعوره وهو يعود إلى وطنه بعد ربع قرن، فكان رد الإمام الخميني: "لا شيء".

زهد الإمام
            
لقدملك الإمام قلوب محبيه بزهده وبساطة عيشه؛ فمنذ أيام النجف وكان الإمام حينها مرجعا دينيا جيء له بمكيف صحرواي كبير يقيه حر أيام الصيف النجفية، سأل رجاله هل يوجد مكيف في كل البيوت النجفية؟ وبالطبع كانت الإجابة بالنفي، فقال لهم بحزم: "ردوه وعودوا به عندما تجهز كل بيوت النجف بالمكيفات".

وعندما غادر النجف متوجهاً الى الكويت نادى سماحته نجله أحمد قائلا: "أحمد… أعطني ملابسي.."، وعندما فتح السيد احمد حقيبة الامام لم ير فيها غير عباءة وجبّة، وثوب وسروال ومنشفة. تصوروا أن هذا المرجع  الديني الكبير والزعيم السياسي الفذ، ورغم المبالغ الضخمة التي كانت تصله ويوزعها على طلبة العلوم الدينية في إيران والعراق لا يمتلك في حقيبته من متاع الدنيا سوى هذه الأشياء البسيطة.

بعد انتصار الثورة الإسلامية تعب الجهاز الأمني الخاص بالإمام حتى وجد أخيراً منزلا تتوافر فيه الشروط الأمنية، وعندما جاء الإمام لرؤية المنزل الجديد رفض الدخول إليه، وعاد من حيث جاء لأن جدران المنزل كانت من الحجر، وفخامة الدار تتنافى مع نزعة الإمام التقشفية، وهو الذي وصف ثورته منذ البداية وسماها "ثورة الحفاة وساكني الأكواخ " ولم يرد ان يتميز عنهم بشيء.

وأخيراً استقر الإمام في ذلك البيت المتواضع في جماران خلف تلك الحسينية المباركة والصغيرة المبنية من الطوب مانعاً تزيينها واستكمال أعمال البناء وتلبيس الجدران بمواد البناء الاخرى.

في ذلك البيت استقبل زعماء العالم ووزراء خارجية الدول العظمى وهو يفترش الأرض ولا يبالي بكل المظاهر المادية التي كانت سائدة في قصور الشاه الهارب وما احتوته من خدم وحشم وترف باذخ.

لم تهز شعارات الفداء بالارواح والدماء شعرة في جسم الامام، ولم تحرك له جفنا، وكانت هذه الشعارات المؤيدة له والمديح الكبير لا قيمة لها عنده إزاء نيله مرضاة الله تبارك الله وتعالى.

التحصن بالقلاع المنيعة

أما القصة التي لا ينبغي نسيانها فهي بحسب آية الله توسلي عندما اشتدت الضغوط والمؤامرات الأمريكية على الثورة بهدف اخمادها في مهدها، وانتشرت التفجيرات وطالت سلسلة الاغتيالات كبار قادة الثورة، من تفجير مقر الحزب الجمهوري الاسلامي، واستشهد اثنان وسبعين من خيرة القادة والوزراء والنواب، وصولا إلى استشهاد الرئيس محمد علي رجائي الوجه الثوري المحبوب. كنا نقدم الصحف للامام في الساعة الثامنة صباحاً من كل يوم، لكن الإمام وعلى غير عادته في ذلك اليوم طلب تقديم وقتها من تلك اللحظة وصاعدا إلى الساعة العاشرة من كل يوم، وعندما تحرينا السبب وجدنا أن الإمام راح يواظب في هذا الوقت على قراءة الزيارة الجامعة الكبيرة، لماذا يسأل آية الله توسلي، ويجيب عن سؤاله: "ليعلمنا أنه كلما اشتدت الضغوط الخارجية علينا التوجه أكثر إلى الداخل، والتحصن بقلاعنا المنيعة".

عد أيها الإمام إلى قلاعك الحصينة، وارتوِ من ينابيع توحيدك النقية، واصنع الشاي لك ولموظفي مكتبك، واخصف نعلك ثم ارفع يدك غمامة فوق هذا العالم تمطر رحمة ورأفة في حقول المستضعفين، فتنبت سنابل وزرعًا يستغلظ فيستوي على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ويزلزل عروش جبابرة الأرض وطواغيت العالم.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

خبر عاجل