نقاط على الحروف
جماليات السرد المقاوم وأثره السياسي
هادي قبيسي
تتشكل خصوصية محتوى السرد من خلال عناصر موضوعه، والمقاومة هنا كموضوع، تمتلك هويتها الجمالية الخاصة لأنها تمثل قيم التحرر الأخلاقي، وحينما يحصل فعل السرد موازياً لفعل المقاومة، يكرس حالة المقاومة ويغذيها وينميها، فهو ليس فعل فني يهدف للتسلية والترفيه أو فعل تثاقف مفتوح على كل اتجاه، بل هو عمل جمالي إنساني متألق، يشكل جزءاً من السير البشري نحو الكمال من خلال تعلم وتلمس طريق التقدم والفلاح.
ماهية السرد
صرف الإنسان الكثير من الوقت والجهد على حكاية قصته، وبذل النقد الأدبي والفني جهداً موازياً في الإجابة على سؤال، لماذا نحكي قصتنا؟
وثمة تراث واسع حول هذه المسألة، فبناء القصة عبر الاسترجاع والتذكر والاختيار العفوي اللاواعي أو المنظم المقصود، هو تنمية لإدراك الذات من خلال مراجعة الماضي والتجربة، فالذات استمرارية تبدأ من الماضي، وبه تواجه الحاضر المتهرب والمستقبل المجهول والمتوقع. اما فعل الحكاية فهو يؤدي دور التعريف بالذات للآخرين من خلال تظهير وعي متماسك وإدراك واقعي واضح للماضي والتجربة.
بناء وتشكيل الحكاية من خلال تحديد واختيار المهم، يخدم في تحديد الهوية والخصوصية، ويؤدي في المستقبل إلى اعادة انتاج التجربة الناجحة وتحديد متطلباتها، والتحذير من التجربة الفاشلة وأسبابها، وبهذا يفتح درب الاستمرارية للأجيال، توفير الاتصال الشعوري الزماني في ظل الزمن المتسرب، كما يمكن توظيف الحكاية ها هنا في تقييم الماضي والنقد الذاتي والتقدم عبر التحسين المستمر، وهنا يتحقق فهم فلسفة التجربة الماضية من خلال التعمق في مستوياتها المختلفة واتجاهاتها وهفواتها وقممها.
عبر تحويل التجربة لحكاية تتم إعادة إملاء التجربة، وفي النموذج الهادف ليست الحكاية إعادة تجربة ذاتية فردانية تقدم الذات كحالة عبثية وتسمح لها بالوجود وفرض الذات كحق لكل تجربة فردية حتى لو كانت كتلة خراب، بل إنها تسهم في تحديد كيفية التعامل مع الحياة، وبالتالي تحديد معنى الحياة.
العناصر الجمالية
سرد فعل المقاومة هو تقديم وعرض السلوك الإنساني في الكفاح التاريخي الذي بدأ منذ فجر البشرية في مواجهة الظلم والاستكبار والطغيان، هو استعراض لكيفية قيامة المستضعفين باستعادة روحهم وحياتهم وسيادتهم وممتلكاتهم، وامتثالهم للقيم العليا للإنسانية ورفضهم الإنضمام إلى معسكر الإستكبار والتعدي على الحقوق. الكفاح العظيم هذا هو مجمع الجماليات الإنسانية، حيث تتبلور وتنضج وتتكامل الخصال الإنسانية السامية، فالمقاومة هي مسرح لنهوض الإنسان وحضور المعنى في التاريخ في مواجهة المادية، وهناك مرتكز العناصر الجمالية.
يمكن عرض وتحليل العناصر الجمالية بالإستناد إلى استقراء السمات العليا لحالة المقاومة والنضال الإنساني، وأهمها توضيح واستعراض مسارات العبور نحو الكمال وعقباتها، وكذلك تجلي مراتب الإنسانية المعنوية والمادية والفردية والاجتماعية والعقلانية والفنية والعاطفية وهي تندمج وتتداخل وتتخادم في لحظة المواجهة، كما يظهر الحضور العادل للمستضعفين في مقارنة ومقابلة الإستكبار المادي المتفوق من خلال اثبات الذات رغم ضعف القدرة، وهنا تتحقق المساواة في الإمكانيات من خلال التفوق المعنوي والإنساني، وفي الإندماج الإجتماعي والتعارف بين المتكاملين وبين السالكين والفطريين عندما تستطيع الجذوة والنخبة المضحية استقطاب الآخرين عبر فعل التضحية نفسه، وتتمظهر ذروة التكامل البشري عندما تتقدم المقاومة في نموذجها المضحي والمنجز والمؤثر في التاريخ في الآن نفسه، وفي البنية التحتية للحكاية يتم حفظ الذاكرة ومن خلالها تتماسك الهوية التي تتأسس على القيم الإنسانية وتعتبر أنها مصداق فعلي لهذه الصفات العليا فتكون هوية مثالية في التاريخ بمقدار تحقيقها لتلك الصفات، فنكون في حكاية المقاومة أمام مسرح تجلي الإنسان الكامل بمقدار تقدمه ونضجه وتصريحه عن مكنونات الفطرة البشرية الإلهية، ومن خلال التناقضات والتفاوت يظهر الجمال المقاوم بالمقارنة مع عدمية الاستكبار وفراغه وسقوطه الأخلاقي، وفي المجال الإجتماعي تظهر العلاقات والخدمات كيفية تولد المجتمع التكاملي المتآزر والذي يعلم بعضه بعضاً ويحفظ بعضه خط سير كمال البعض الآخر من خلال الفعل المباشر ومن خلال النموذج الأخلاقي السامي، ولا تكمل حكاية المقاومة إلا بتظهير الآلام والتكاليف التي تدفعها الإنسانية في مواجهتها للظلم والإختناق المادي، وتستكمل توضيح عظمة السعي عبر تعريف قيمة نتائج المقاومة وضرورتها للإنسانية جمعاء، ويتلخص كل ما سبق في أن هذه الحكاية بالتحديد تتولى مسؤولية تظهير نفاذ المعنى والغيب في الواقع التاريخي، حيث يؤدي الإيمان إلى تحقيق النصر والإنجاز في مواجهة العدو المتغطرس المسلح بكل ما يحتاج ليملي هيمنته ويسحق الآخرين.
تأثير السرد المقاوم
الوعي الذي تبثه صنعة السرد وبناء الحكاية وعرضها حينما يكون مضمونها مؤلفاً من شؤون تحيط بفعل المقاومة الإنساني السامي، هذا الوعي له أثر في فعل المقاومة التاريخي الواقعي نفسه، ولذلك يجهد الإستكبار في تعديل هذه الرواية وإعادة انتاجها ومسح الصفات الجمالية منها واستبدالها بأخرى دنيوية وسلبية وساقطة، وذلك لأن إدراك الآخرين، على امتداد المجتمعات المستضعفة والمنهوبة، لهذه الجماليات سيؤدي إلى تمدد حالة المقاومة زمنياً في المستقبل ومكانياً في الجغرافيا.
تؤثر قدرة الجذب التي تمتلكها هذه الحكاية في القابليات الفطرية للتحرر المدفونة في قلب كل مستضعف وتخرجها إلى حالة الفعالية والحركة بحسب الفرصة التاريخية المتاحة لها للتعبير عن ذاتها، وقبل أن تخطو حكاية المقاومة خطواتها خارج بيئة المجتمع المقاوم، فإنها عندما تنتشر ويتم تداولها بشكل متواصل زمنياً داخل هذا المجتمع، تستطيع أن تحفظ الجذوة الثورية وروح التحرر متوقدة وترسخ الإيمان بجدوى المقاومة وفعل الكفاح ضد الطاغي المتفوق، وتحفظ تماسك البنى المجتمعية من الاختراق الثقافي الهادف إلى إلغائها وسحق إدراكها لذاتها وتفكيكها وتدميرها، بدءاً من الفرد إلى العائلة والحركة التحررية وصولاً إلى الهوية الوطنية والدينية.
يعني الإنجذاب إلى فعل التحرر، والقيم العليا التي يظهرها في التاريخ، من قبل جمهور المستضعفين نهاية الطغيان، وعندما تتحول هذه القيم إلى مكون واعٍ في الهوية ضمن توافق اجتماعي راسخ، يصبح من العسير على الاستكبار أن يستكشف الفرص الفعلية لاستعادة الهيمنة الشاملة على المجتمع.
يكون لتلك الجماليات المتضمنة في السرد المقاوم أثر تاريخي وسياسي حاسم عندما تتحول إلى عناصر في بنية الهوية، وتملي تأثيراً سلوكياً جماعياً، يمكن أن ينعكس، بفعل عمل ثقافي منظم، في كل مجالات الحياة، ليس فقط في المواجهة بل كذلك في البناء والتقدم المجتمعي العام.
تشكل الفعالية التي تحييها عناصر الجمال والدوافع التي تستنهضها وتستخرجها من خلال إملاء الحكاية، التي تستطيع توجيه الإنسان، عبر النموذج الفعلي الواقعي لا المفاهيم ولا الخيال، نحو السير باتجاه التحرر، هذه الفعالية والدوافع تشكل مصدر الخطر على عمليات النهب المنظم التي تنجح حينما يغفل المجتمع عنها، والتي تشكل الهدف النهائي للاستكبار الطامع بشكل غريزي للنهب.
كأي عملية سطو ينجحها نوم أهل المنزل أو عدم التفاتهم أو عدم قيامهم بما يلزم لمنع هذا السطو، نتيجة عدم استعدادهم لتحمل متطلباته وتكلفته أو جهلهم بكيفيته أو احتمالات نجاحه، فتأتي هذه الحكاية كمحفز للفعل وككاشف عن الكيفية والإمكانية، فمن خلال لمس ومعايشة روح الإنسان المتفاني والمكافح والمنتصر، عبر السرد المباشر، تستيقظ الفطرة وتتحرك الدوافع وتتشكل بذرة القرار بالتحرك والتحول والتغيير حتى التحرر.
تحرر هذه الحكاية المقاومة الإنسان من أوهام العدمية واليأس والإحباط وتظهر له جمالية التفاني والمشاركة فتخرجه من ظلمات الفردانية المطبقة والمدمرة للروح الجماعية التي لا يمكن بدونها تحقيق شروط السيادة والإستقلال، بكلمة أخرى، إن هذه الحكاية تعلم روح وقلب وعقل الإنسان كيف يقاوم، إنها تجعلها يعانق حالة التحرر ويصافحها ويلامس جمالها بشكل مباشر من خلال النماذج الفردية والجماعية في التاريخ.
تواجه هذه الحكاية حرباً إدراكية هائلة من قبل الاستكبار كرد فعل طبيعي، لكنها عندما تحقق شروط الجذب الفنية والشكلية والروحية والمحتوى الجمالي وتتوفر المساحة الإبداية الكافية للتجديد الكمي والنوعي الدائم، بحيث تحقق الجدة والدهشة والجاذبية مع الأجيال وتتفادى التكرار النمطي القاتل، دون أن تلجأ للمخيلة، والاكتفاء بأسطورة الواقع المقاوم، فإنها تستطيع تشكيل تيار التواصل الواعي مع الهوية المقاومة والحفاظ على صلابة الجمهور المستضعف في الاختبارات المختلفة، وتفتح له نافذة الأمل مهما ادلهم ليل الطغيان.
الفنونرواة المقاومةالمستضعفونالاستكبارالجمالالتحررالرواية
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024