نقاط على الحروف
"صورة لبنان" التي شوّهها "العتّالة" والمزارعون!
ليلى عماشا
ما إن ينهي السّامع إصغاءه أو إنصاته إلى محتوى الڤيديو الذي انتشر من مقابلة لتلفزيون "الحدث" مع الإعلامية اللبنانية "مي شدياق"، يستنتج أن ثمّة فئة تفترض أنّها تفضّلت بالرضا بضمّ جبل عامل إلى دولة لبنان لتأمين يد عاملة رخيصة وموارد زراعية ترفد الدولة والبلد بحاجاته من هذا القطاع الاقتصادي، وأنّها، هذه الفئة، تعيش اليوم خيبة من أحسنَ ولم يُردّ له إحسانه، بل تعاني من جرح في شعورها الشوفيني وأحاسيسها بالتفوّق وبالأحقيّة بالامتيازات، تمامًا كشعور "ولاد الغني" إذا ما رضي أبوهم بعمل لجنة مشتركة مع سكان الحيّ الفقير كي يؤمّن اليد العاملة التي يحتاجها وتفاجأوا بأن أولاد الحي الفقير هم أهل علم ومعرفة وشرف وقوّة. وهم معذورون بصدمتهم إلى حد ما إذ لم يبلغهم الأب أنّ الحي الفقير ذاك أرض لا يمتلكها إلّا أهلها، وأنّها بقعة حفرت في التاريخ حكايتها مع العلم والمعرفة والشرف والقوّة.
عبّرت "مي شدياق" عمّا يجول بخاطر فئة أولاد الغنيّ كلّهم، وعن نظرتهم الدونية ناحية الجنوب وعن حجم القهر الذي يعيشونه إذ يعتقدون أنّ الجنوب أخلّ بشرط انضمامه إلى مساحة الدولة.
في الواقع، يُعاب الإعلاميّ على جهله بالمادّة التي يتناولها، وبدا في مقطع "الشدياق" أنّها تجهل بشكل تام تاريخ جبل عامل، أو تتجاهله. فجبل عامل حوى حكايات المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي وضد العصابات الصهيونية منذ ١٩٤٨ وقاتل أهله الفقراء كلّ عدوان عليهم، ليس مكانًا عُرف بالخنوع أو لم يعرف المقاومة إلّا بعد أن صُدّرت إليه الثورة الإسلامية العظيمة في إيران... فالجبل الذي رفد قم والنجف بخيرة العلماء لم يكن مساحة خالية من المتعلّمين كما تصوّر"الشدياق" الأمر، أو تتصوّره. صحيح أنّه أرض يعمل أبناؤها بالزراعة، وأسّس هذا العمل فيهم علاقة وثيقة مع التراب، تبلغ التوحّد معه، وتجعلهم خير حماة له ولشرفه. ولكن ذلك لا يجعلهم مزارعين وجب أن يعملوا في خدمة جبل لبنان وبيروت ويمدّوا البلد بمنتوجاتهم الزراعية بصمت كتعبير عن امتنانهم العميق لقبول هؤلاء بضمّ عامل إلى لبنانهم!
كذلك، يبدو أن مرحلة الاحتلال وكل ما ارتكبه على أرض الجنوب سقطت من ذاكرة "الشدياق". فهي صوّرت صناعة المنظومة المقاومة واختصرت كلّ تفاصيلها بتشبيهها بسجادة إيرانية صُنعت على مهل، متناسية الحاجة الحيوية للسجاد في برد الاحتلال وصقيع الوقوف على المعابر. بلا حدّ أدنى من الخجل، وبلا أيّ محاولة لتجميل النظرة الدونية التي تنظر بها ناحية أهل عامل، عبّرت "الشدياق" باستياء ظاهر عن خيبة "لبنان" بسبب حمل أهل عامل السلاح ومقاتلة "اسرائيل". بكلمات صريحة ومباشرة، قالت شدياق أن التنظيم المسلّح، أي حزب الله، استغلّ فقر الناس وعوزهم في تلك المنطقة وجعلهم ينضمون إليه بدل من أن يزرعوا أو يعملوا في المهن التي اعتاد الشوفينيون أن يروهم فيها. بحديث قصير، أسقطت "الشدياق" عن كلّ أهل جبل عامل تاريخهم في المقاومة، وشرفهم العزيز الذي لا يُضام، وحوّلت عملهم المسلّح إلى "فرصة عمل" أمَّنت لهم مدخولًا أكثر من ذلك الذي كانوا يحصلون عليه كمزارعين أو كيد عاملة رخيصة تعمل في "العتالة" أو في خدمة الآخرين.
مشكلة "الشدياق" والتي عبّرت عنها بحزن هي أنّ كلّ ذلك كان مشروعًا إيرانيًا لتغيير صورة لبنان، والفكرة نفسها تتكرّر دائما في مجموع الخطاب السياسي والأدبيات الشعاراتية التي يستخدمها الفريق السياسي (المفرّق) في التصويب على المقاومة وحزب الله. فلبنان بالنسبة لهم "علبة ليل" في شارع الشرق الأوسط الذي يستثمر فيه الغرب، "دولة" لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تشكّل خطرًا على الكيان الصهيوني، مساحة جغرافية يسكنها طبقتان: طبقة تؤمّن المصالح الغربية، وطبقة عمّال ومزارعين يعملون بصمت في خدمة الطبقة الأولى صاحبة الامتيازات.
هذه هي الصورة التي يريدها هؤلاء للبنان والتي فشلوا في صنعها فخابوا وخيّبوا مشغّليهم، واعتبروا صادقين أنّ ما "خرّبها" هو وجود لبنانيين لا يرتضون الخضوع للخارطة الغربية ولا للصورة الحافلة بقلّة الشرف ولا لممارسة طبقية تضع لهم حدودًا لإنسانيتهم ولطبيعة وجودهم الاجتماعي، يحملون السلاح ويقاتلون عدوّهم ويتعلّمون وينالون أعلى المراتب العلمية والثقافية والأخلاقية ويهدّدون الغرب كلّه وكلّ مشاريعه ولا يتورّطون برهة في مستنقع الصورة التي تدافع عنها "الشدياق"، وتحسب تخريبها فعلًا إيرانيًا.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024