نقاط على الحروف
الأبعاد الاستراتيجية لتعليق روسيا مشاركتها في "ستارت 3"
يونس عودة
يكتسب المسير باتجاه صدام نووي كل يوم جدية أكبر، تعززه الوقائع والخطابات العاكسة للاجراءات في المسرح الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأميركية، وهي تعمل على توسعة هذا المسرح الدولي، وترفض في الوقت نفسه أن تكون هناك أية ردود أو اجراءات من أي دولة لتحفظ أمنها واستقرارها أو وحدتها أو مجتمعها. كما تعمل أميركا وتفرض بعنجهية الانصياع إلى مشيئتها وخططها.
لقد فوجئت الولايات المتحدة أثناء جولة رئيسها جو بايدن الاستعراضية في أوكرانيا وبولندا بقرار روسيا الذي أعلنه الرئيس فلاديمير بوتين بتعليق المشاركة مع الولايات المتحدة في معاهدة (ستارت-3) المتعلقة بالتدابير الرامية إلى زيادة خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحد منها، والموقعة في براغ في 8 نيسان 2010. وصدر التعليق بقانون عن مجلس الدوما (النواب) بعد ساعات ليؤكد جدية روسيا في مكافحة التغول الأميركي والضرب على الطاولة بقوة، والجزم بأن توسيع انتشار قوات الحلف العدواني بزعامة أميركا واقامة قواعد في الدول المجاورة لروسيا لم يعد مسموحًا.
ربما استطاع بوتين بقراره افساد جولة بايدن ومهمتها الرئيسية داخلية لتعزيز موقفه في الصراع من أجل زعامة الحزب الديمقراطي، وضد الجمهوريين عشية الحملة الرئاسية. والدليل على ذلك عدم الجرأة في القيام بالتوجه الى كييف دون أن ينال اذن مرور آمن من روسيا قبل الانطلاق على متن قطار وبمراقبة روسية كاملة كي لا يشطح أحد الصواريخ وتتهم به روسيا ويكون مقدمة حقيقية لاندلاع حرب لا تبقي ولا تذر. طلب الإذن من الروس للزيارة أبلغت به الصحافة ما دفع الاعلام الذي يسيطر عليه الديمقراطيون الى التغطية عليه من خلال اثارة زوبعة بالحديث المضخّم عن "الجرأة" خلال الزيارة "التاريخية"، التي لم تكن تستحق عناء السفر لرجل عجوز يحتاج لمرافقة فريق طبي كيفما تحرك.
أوضح بوتين المسار الذي أدى الى تعليق المشاركة في معاهدة الأسلحة الاستراتجية والهجومية، بحيث إن اميركا لم تف بالتزاماتها وتملصت منها عبر المراوغة، لا بل عملت عكسها تمامًا لمصلحة حلف "الناتو" الساعي الى إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا. وقال بوتين "إن الأميركيين الذين سارعوا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، في مراجعة نتائج الحرب العالمية الثانية، لبناء عالم على الطراز الأمريكي لا يوجد فيه سوى سيد واحد، بدأوا بوقاحة في تدمير جميع أسس النظام العالمي التي تم وضعها بعد الحرب العالمية الثانية لشطب تراث يالطا وبوتسدام".
في الحقيقة، وفت روسيا بجميع التزاماتها، وخفضت عدد أسلحتها الهجومية الاستراتيجية إلى 527 رأسا، أي بما يقل عن العدد المنصوص عليه في الاتفاقية بـ 130 رأسًا، إضافة إلى التزامها بجميع تفاصيل الاتفاقية، كمًّا ونوعًا وموعدًا، وذلك باعتراف نوعي من الولايات المتحدة ذاتها. أما الولايات المتحدة فاستبعدت بشكل غير قانوني، ومن جانب واحد، دون التشاور مع روسيا، جزءًا من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية الأمريكية، معلنة "إعادة تجهيزها"، منها 56 قاذفة من طراز Trident-II SLBM و41 قاذفة ثقيلة من طراز B-52H. كما رفضت الولايات المتحدة تضمين 4 قاذفات صواريخ باليستية عابرة للقارات، تحت ذريعة تخصيصها للتدريب.
وفي عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عرضت روسيا على الولايات المتحدة تمديد مدة المعاهدة دون شرط أو قيد، والبدء بتجميد عمل الترسانات النووية إلى حين إتمام الاتفاق بين الطرفين، الأمر الذي رفضته الإدارة الأمريكية بذريعة أنه لا يصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي، ما يؤشر بلا ادنى شك الى أن واشنطن ستبقى أسيرة فكرة ترسيخ هيمنتها العالمية متجاهلة مصالح روسيا الحديثة والدول الأخرى أيضًا.
طبعا، استشاط الغرب غيظًا بعد اللكمة الروسية الجماعية، فانبرى الغربيون وأولهم الولايات المتحدة وأمين عام حلف "الناتو" وبريطانيا وفرنسا والملحقات الأطلسية الأخرى لمناشدة روسيا التراجع عن قرارها. وقال الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ الذي يختصر المواقف الغربية جميعًا: "آسف لقرار روسيا اليوم تعليق مشاركتها في معاهدة نيو ستارت، بقرار اليوم المتعلق بنيو ستارت تم تفكيك هيكلية مراقبة الأسلحة بالكامل"، في فترة ما بعد الحرب الباردة في أوروبا.
من الواضح أن روسيا اتخذت قرارها الاستراتيجي بعد تمحيص كبير وامتلاك القوة لحماية القرار، وعليه قال بوتين إنه من المستحيل هزيمة روسيا بساحة المعركة وسنتعامل بالشكل المناسب حيال تحويل الصراع إلى مواجهة عالمية. وقد وصل مستوى تجهيز قوات الردع النووي الروسي إلى أكثر من 91%. وكشف أنه في بداية شباط طالب الناتو بالعودة إلى معاهدة "ستارت" بما في ذلك إتاحة الفرصة للإشراف على قوات الردع النووية الروسية. وأضاف بوتين "طلبنا في الإشراف المقابل لم يتم الرد عليه، أو تم تجاهله".
يمكن أن تكون الولايات المتحدة نالت ما تستحقه جراء سياستها المعادية لروسيا، وفق ما قال نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف وهو الذي في عهد رئاسته لروسيا صادق مع نظيره الاميركي آنذاك باراك اوباما على معاهدة "ستارت- 3".
لم يقفل بوتين الباب أمام العودة للمعاهدة بحيث انه علق المشاركة فيها ولم ينسحب منها وبذلك باتت شروطه للعودة واضحة تمامًا، فإما تحطيم العنجهية الأميركية وعدم تهديد روسيا وتحرير الدول التي تحترم نفسها من القبضة الاميركية بما ينتج عالمًا جديدًا، أو فليكن الطوفان اذا كان العالم مجرد بيادق في اليد الأميركية وحروبا متنقلة لخدمة المصالح الأميركية.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024