نقاط على الحروف
٧ حبّاتٍ كَريمَة من مسبحة الوصيّة
ليلى عماشا
تُتلى وصايا الشهداء المكتوبة في محضر عائلاتهم والمقربين منهم. يُنصت إليها بخشوع ورقّة. دمعُ الأحبّة يقاطع القارىء في بعض المقاطع ولا سيّما حين يتوجّه الشهيد بجمل أو بفقرة مباشرة إلى أحد بالذات. هنا، يترنّح قلب السّامعين بين أزقّة الشوق والفقد والرضا والعزّة. كذا كان حال الطيّبين في كلّ الأرض يوم الاطلاع على وصيّة سيّد شهداء محور المقاومة الحاج قاسم سليماني.
مقاطع الوصيّة بكلّ تفاصيلها تتكامل لتعكس شخصية الحاج قاسم على كلّ المستويات، القائد والأب والمجاهد، رفيق الشهداء، الوفيّ لقريته وعائلته وبلاده وأمّته، المحبّ الحنون والعارف الترابيّ والعاشق إلى حدّ الفناء.
لعلّ كلّ جملة في الوصيّة المحرّرة بعناية واتقان تستحق التأمّل طويلًا وأن يُكتب في دلالاتها وأبعادها ما يكفي لتقديم نموذج عن نمط حياة انسانية متكاملة يمكن للمرء أن يعتمده معيارًا في قياس سلوكاته وخياراته. إلّا أنّ ثمّة جملًا يقرأها المرء بصوت قاسم سليماني الساكن في أوتار صوت القلب. ثمّة تفاصيل بسيطة تحفر في ذات الذي يقرأ، تتوغل عميقًا في روحه.
*"حقيبة سفري فارغة"*
العبارة وحدها ترسم في قلب المرء مرّة واحدة شريطًا من صور، من اليسر الذي عرفناه عن مسير طيلة ٤٠ عامًا من الجهاد. يا ربّاه! كلّ هذا وحقيبته فارغة!
كيف تمتلئ الحقائب إذًا؟! قل لنا يا عزيز قلوبنا قُل. تدري بأنّ الألوف المؤلفة من القلوب وحقائبها تتبع عشقك كي لا تضلّ الطريق.
هذه الروحية التي تجعل كلّ ما فعل سليماني صغيرًا بعينيه ولا يملأ حقيبة المسافر إلى الله درس ليس بالتواضع وببديهية أن يقوم المرء بما يستطيع وعلى قدر استطاعته. هي درس في العشق، لو كان العشق يُدرّس.
*"لقد تخلّفتُ عن قافلة رفاقي"*
استشهد رفاق الحاج رفيقًا تلو رفيق. كان يودّعهم بحسرة المشتاق الذي تأخّر. وكان يسعى للقياهم شهيدًا. حسرته تلك لم تفارق عينيه وقلبه برهة، وكانت تنفجر دموعًا كلّما تحدّث عنهم. لذلك اختار أن يكون ضريحه مجاورًا لأضرحتهم في كرمان، ولذلك احتفظ في بيته بـ"جاكيت" الحاج عماد.
*"الجمهورية الإسلامية هي الحرم"*
أهل ميادين الحرب هم الأدرى بشعابها وبأهدافها. وهذا المحارب يدرك ويلفت نظر الكلّ إلى دور الجمهورية الإسلامية كدولة الإسلام الناصر للمستضعفين في الأرض، وبذلك هي الحرم الذي يستهدفه كلّ أهل الشرّ في الأرض. وهو لا يتحدّث هنا بناءً على رغبته أو على مقاربة يغلب فيها شعوره القومي تجاه بلاده، بل بناء على المشروع الذي أسّس لدولة ولاية الفقيه في الجمهورية. يتحدّث بلسان من يعرف تمامًا أنّ هدف الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه) يتخطّى فكرة بناء دولة إسلامية قويّة في إيران، وأنّ الدولة وسيلة لهدف أسمى وهو بناء دولة العدل النواة.
*"والدان فقيران متديّنان عاشقان لأهل البيت(ع)"*
هو درس في التربية، في تقديم النموذج البيتي الصالح الذي يتيح للطفل أن ينمو على فطرته، بعيدًا عن التكلّف الذي قد يصنعه التّرف، وبداخل هالة التديّن وعشق أهل البيت(ع) الذي يملأ كيان الطفل بالقيم الإنسانية السامية وبالعبر. إن هذه التربية كفيلة بتحصين الإنسان ضدّ الشرور التي باتت تقدّم له على أنّها أنماط مختلفة للحياة، وهي تربية كفيلة بتحرير الطفل من آفة الفردانية التي باتت تُعرض في كلّ تفاصيل الحياة وتُقدّم مرتبطة بالنموذج "الحضاري الغربي"!
"*أهتم بالإنسانية والعواطف والفطرة أكثر من الأطياف السياسية*"
الجانب العاطفي في شخصية الحاج قاسم هو الأرض التي تنبع منها حكمته في مقاربة كلّ الأمور، من السياسة إلى العسكر، ومن العلاقات الإنسانية إلى اللقاءات الدولية الرسمية. وبذلك يقدّم الحاج نموذج الإنسان الذي تحرّكه فطرته ودوافعه الأخلاقية والعاطفية باتجاه أيّ موقف.
عادة يُؤخذ على أهل الشرق أنّهم عاطفيون، في زمن سعى فيه الغرب إلى تقديم نموذج الإنسان الأشبه بآلة تعمل وفق ما تقتضيه المصلحة والمكاسب، بعيدًا عن أيّ بعد أخلاقي أو إنساني.
"*اجعلوا شهيدكم يتجلّى في ذواتكم*"
هي رسالة لكلّ فرد منا، فمَن ليس له شهيد قريب أو جار أو حتى من معرفة اجتماعية بعيدة؟ وهي رسالة تربوية أيضًا، فبحمل أثر الشهيد في شخصياتنا نصبح أرقى، أقرب إلى إنسانيتنا، وبتحمّل مسؤولية تجلّي الشهيد في ذواتنا نصبح أكثر قابلية لعيش حياة الشهداء، نصبح حاملي أمانة، وحامل الأمانة يسعى سعيه لتأديتها كاملة.
*"أن يحمل جثماني أبناء الشهداء"*
لماذا اختصّ الحاج أبناء الشهداء بهذه الكرامة؟! لأنه يعرفهم جيّدًا. لقد عاش بينهم، كانوا أولويّته حتى في أكثر ساعاته انشغالًا. وكان يحاول بكلّ جهد ممكن أن يتابع شؤونهم وكأنّه أبوهم. في وصيّته، أوكلهم بما يوكل الأب أبناءه: احملوا جثماني. هو يعلم علوّ كرامتهم ومكانتهم عند ربّه، وهو يعلم أنّ فيهم من كانوا صغارًا عند استشهاد آبائهم فلم يشاركوا في حمل نعوشهم يوم عادوا شهداء، ويعلم أن بينهم أبناء شهداء مفقودي الأثر لا أضرحة لآبائهم.
تطول الوصية، ومعها يطول الكلام عن قائد ما زلنا حتى اللحظة لا نعرف إلّا القليل عن عظمته، وعن رجل نستشعر قدره بقياس حجم الفجيعة التي هزّت القلوب في الدنيا، ومقدار التألّم الذي لا يسكّنه الوقت ولا يخفّف حدّته اليقين بأن سليمانيّ العزيز وصل إلى حيث اشتهى، ونال الكرامة التي يستحقها.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024