نقاط على الحروف
فلسطين من قرار التقسيم إلى خيار التحرير
يونس عودة
حلّت الذكرى الخامسة والسبعون لأبشع قرار يصدر عن الجمعبة العامة للأمم المتحدة فرضته دول خرجت من الحرب العالمية الثانية بدروس هتلرية واضحة، وهو القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، بموافقة 23 دولة ورفض 13، وامتناع عشر دول عن التصويت. وقد رُفض هذا القرار في حينه من قبل القادة العرب، وبقي العهد على مدى عقود إلى أن دخل بعض من يُسَمّون بالزعماء العرب مرحلة حملت الخضوع والخنوع والتفريط بالأرض والسيادة والكرامة، بينما كان الشعب الفلسطيني يزداد معاناة وإصرارًا على تحرير أرضه، تسانده في ذلك قوى ناشئة مع قوى ودول رفضت عوامل الاستسلام واعتبار الكيان الصهيوني قدرًا لا يُرَد.
جاء القرار كترجمة فعلية لوعد بلفور المشؤوم، وتعود أصوله إلى عام 1937 حين أصدرت "لجنة بيل"، المُكلفة من بريطانيا المحتلة، في اطار تقصي أسباب الثورة الفلسطينية الكبرى التي قامت ضد الاحتلال البريطاني عام 1936، تقريرها الذي ورد فيه لأول مرة مقترح التقسيم، وفي ظل الاحتلال البريطاني لفلسطين المتصدر الأول في حمل القرار وصياغته وترويجه مع الولايات المتحدة الأميركية، وغايته زرع مجاميع احتلالية بدل الاحتلال البريطاني (1920-1948) الذي شعر أنه لم يعد قادرًا على تحمل البقاء في بيئة كرهته بسبب أعماله وجرائمه حتى النخاع.
نصَّ القرار على تقسيم فلسطين إلى ثلاثة أجزاء، اثنان تقام عليهما دولتان عربية ويهودية، وثالث للأماكن المقدّسة يوضع تحت الوصاية الدولية، وكأنه أراد الخلاص من اليهود في أوروبا بشقيها الغربي والشرقي وكل دول الغرب، بسبب السلوك الجماعي والاجتماعي والسياسي المرفوض من غالبية الشرائح الاجتماعية والسياسية في أوروبا تحديدًا، ودفع هؤلاء اليهود الى فلسطين مع دعم لا محدود واستخدامهم كقَتَلَة بلا رحمة في الوقت المطلوب.
لقد توخّى قرار التقسيم إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وإقامة 3 كيانات جديدة على أراضيها، على الشكل التالي:
- دولة عربية تقام على مساحة حوالي 11.000 كيلو متر مربع، ما يمثل 42.3% من المساحة الكلية لفلسطين، وهي تقع على الجليل الغربي، ومدينة عكا، والضفة الغربية، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود وجنوبا حتى رفح، مع قسم من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر.
- دولة يهودية تبلغ مساحتها 15.000 كيلو متر مربع، تمثل نسبة 57.7% من إجمالي فلسطين وتقع على السهل الساحلي من حيفا وحتى جنوب "تل أبيب"، والجليل الشرقي، بما في ذلك بحيرة طبريا وإصبع الجليل، والنقب بما في ذلك أم الرشراش، المسماة عنوة "إيلات" حاليًا.
- الكيان الثالث يضم مدينة القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة، ويوضع تحت وصاية دولية.
قوبل القرار برفض عربي شامل ومتحد، وانسحب مندوبو الدول العربية من اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة حين أعلنت النتيجة، وأعلنت الجامعة العربية أن قرار تقسيم فلسطين غير شرعي، فيما شهدت فلسطين اضرابًا عامًا واكبه الشارع العربي في كل الدول التي لم تعد خاضعة للانتداب أو الاحتلال، ومن بينها دول تتعمد التطبيع حاليًا متنكرة لتاريخ مؤسسيها وآبائهم الذين صنعوا لهم ممالك وامارات.
بالمقابل، أطلق الاحتلال البريطاني على أرض فلسطين العصابات الصهيونية التي تشكلت بمعونته وتحت رعايته من التدريب إلى التسلح، وهاجمت تلك العصابات البلدات والقرى الفلسطينية الآمنة وغير المسلّحة، وبدأت تنكيلًا وقتلًا وتهجيرًا للفلسطينيين تحت أعين الجيش البريطاني والأمم المتحدة ومندوبيها. ونفّذت العصابات الصهيونية في فلسطين المجازر في ظل القرار الأممي، وباشرت تطبيقه على الأرض عبر خطة احتلال اعتمدت على زيادة وتيرة الهجمات على المدن والقرى الفلسطينية. ولم تكن مجزرة "دير ياسين" الأولى التي تنفذها العصابات الصهيونية في فلسطين، كما أنها لم تكن الأخيرة، إلاّ أن ما رافقها من أحداث سياسية وعسكرية جعلها نقطة تحوّل في حرب 1948، فأصبحت رمزًا لمخططات الاقتلاع والتهجير بحق المواطنين الفلسطينيين من قراهم ومدنهم.
وفي 14 أيار/مايو 1948، أعلن انشاء كيان "إسرائيل" المحتل على معظم أراضي فلسطين التاريخية دون توضيح حدودها حتى اليوم، واكتشف الفلسطينيون أن غالبية حكام العرب ارتموا في حضن الغرب ولا سيما بريطانيا التي كانت تستعمر العديد من البلدان العربية إضافة إلى الولايات المتحدة وفرنسا. إلا أن المدّ القومي كان سندًا قويًا للفلسطينيين الذين رأوا أن الكفاح المسلّح من الشعب الفلسطيني هو الحل وطريق التحرير، وازداد اليقين بذلك بعد عامين على انطلاقة الثورة المسلّحة في ضوء اغتصاب "إسرائيل" ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، واحتلالها شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، وتلقي الجيوش العربية ضربة في حرب ما سُمّي بـ "النكسة" في 5 حزيران/ يونيو 1967.
توهّجت فلسطين مع انطلاق الثورة الفلسطينية والعمليات العسكرية، وبنت منظمة التحرير مكانة في العالم قاعدتها السلاح الهادف إلى التحرير، رغم تزايد المؤامرات والضربات والاغتيالات للقادة لاخماد شعلة الكفاح المسلّح التي لا يمكن اطفاؤها. وشعّ أمل كبير مع انتصار الثورة الإسلامية في ايران، وهو ما اعتبره الكيان أكبر وأقسى ضربة لحواضنها لا سيما مع استبدال السفارة الإسرائيلية لتكون مقر سفارة فلسطين.
لقد حدثت تغيرات عالمية مع التغول الأميركي وسقوط الاتحاد السوفياتي والانبطاح العربي أمام المشاريع الأميركية، وكان مؤتمر مدريد عام 1992 محطة هي الأخطر بعد اتفاق كامب ديفيد. وانخرطت منظمة التحرير الفلسطينية في عملية تسوية مع "إسرائيل" عام 1993، مع إنشاء السلطة الفلسطينية لتولي حكم أجزاء من أراضي فلسطين التاريخية بموجب اتفاق أوسلو. مع ذلك استمر الكيان المحتل بارتكاب جرائم فاقت ما يُروَى عن جرائم النازيين خصوصًا أن "إسرائيل" لم تلتزم حتى باتفاق ينهب المزيد من فلسطين، وواصلت انتهاكاتها بحق الأرض والإنسان الفلسطيني.
وعلى مدى 27 عامًا، وسّعت "إسرائيل" نشاطها الاستيطاني الذي تغلغل في أراضي الضفة الغربية، وأحكمت حصار قطاع غزة منذ 2006، بينما تستمر مشاريع تهويد معالم مدينة القدس المحتلة.
ويقوّض الاستيطان الإسرائيلي، الذي يعد مخالفًا للقرارات والقانون الدولي أركان الضفة الغربية، ويخترق مدنها وقراها ويقطع أوصالها، ما أدى الى انسداد أفق الحل السياسي موضوعيًا ولم يعد هناك مجال لحلول على أساس المفاوضات تعطي الحق بدولة فلسطينية، بصرف النظر عن حدودها، أو حجمها ومواصفاتها ما دفع ببعض الفصائل لاعادة التقييم مع استنهاض القناعة بأن الكفاح المسلح هو الحل الوحيد. كما أن ما يسمى "اسرائيل" قاطبة هي كيان متطرّف، وليس فيها تيارات يمكن أن تقبل بحلول سياسية ومفاوضات مع الفلسطينيين. وقد روّج التسوويون في سياق تعمية الوقائع والحقائق مقولة أنه لو قبل العرب بقرار التقسيم لكان للفلسطينيين دولة بمقوّمات أفضل من تلك المُطالب بها حاليًا في حدود عام 1967، وذلك في اطار تبرير انهزاميتهم وخضوعهم وتخليهم وتفريطهم بالحق الفلسطيني الذي لا يمحى بالتقادم.
شهد العامان الأخيران محطات مضيئة في التاريخ الفلسطيني أكان في معركة "سيف القدس" أو معركة "وحدة الساحات"، حيث وجد الفلسطينيون ظهيرًا حقيقيًا في دعم كفاحهم، تمثل بمحور المقاومة من ايران إلى سوريا والعراق ولبنان حيث المقاومة الإسلامية، إلى اليمن الصامد.
كما أن الغليان المصحوب بعمليات يومية في الضفة الغربية والقدس يظهر تراكم الروح المقاومة التي هي أساس اليقين بالحق، كل ذلك يعطي مؤشرات واعدة ويقينية على طريق التحرير، كما أن هناك عالمًا جديدًا في إطار التشكّل يستدعي خيارات على مستوى القوى الفلسطينية لحسم الخيارات المؤدية إلى التحرير، لا سيما في ضوء التجارب المريرة في مفاوضات التسوية التي لا يستفيد منها سوى العدو وتمده بسبل البقاء أكثر على أرض فلسطين.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024