نقاط على الحروف
في فنون الكذب الأميركي
أحمد فؤاد
"أقوى سلاح في يد الجزار هو وعي المقهورين".
ستيف بيكو- مناضل وضحية نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
من حق وزير الحرب الأميركي الجنرال لويد أوستن أن يكذب، وهو يقول في اجتماع رسمي وعام إن "الولايات المتحدة ترفض العنف وغزو الدول"، ومن حقه أيضًا أن يكذب وهو يصدق نفسه، ومن حقه أن يمارس الكذب بحده الأقصى من الكلاحة والفجور، في مواجهة تحديات هائلة تعصف بأمن الكوكب، الذي يعد نفسه حاميًا له ومجيرًا لأخياره من شراره، لكن ليس من حقه أن يطالبنا بتصديق ما يقول، بل من واجبنا تجاه أنفسنا أن نكذّب وأن نرفض وحتى أن نسخر مما يقول.
من حق الجنرال الأميركي الأقرب إلى شخصية "زنجي البيت" في الرائعة السينمائية الخالدة لـ "كوينتن تارانتينو"، أن يحلم بلعب دور العبد المنزلي والذي أداه ببراعة "صامويل جاكسون"، في فيلم لا يزال يثير الكثير من الجدل منذ عرضه للمرة الأولى في 2012، وحتى اليوم، والذي يحفل بمشاهد تفضح الواقع الحقيقي لأميركا، كما هي على الأرض، لا كما يجري تصديرها إلينا، أو كما قال البطل جانغو لصديقه شولتز، في أحد أهم المشاهد: "إنه حزين لأنه لم يعرف أميركا على وجهها الحقيقي"، وكما أن "عبد المنزل" يعرف الوجه الحقيقي هذا جيدًا، فقد قرر خدمته بتفان وإخلاص كاملين، وحتى النهاية.
من حق وزير الحرب الأميركي، ببزته العسكرية المتألقة، التي تحمل 4 نجوم، والكثير جدًا من الأوسمة والميداليات المذهبة البراقة، أن يحلم بدور لنفسه، ولبلاده، في العالم يوازي دور "دوايت أيزنهاور" في أوروبا، عقب الحرب العالمية الثانية. كان الرجل ومعه رئيس أركانه بيدل سميث، يحكمان القارة من مكتبهما في باريس، خارج كل قاعدة وفوق أي قانون ومتحررين من كافة القيود، أو يكرر لعب دور دوجلاس "ماك آرثر"، قائد القوات الأميركية في المحيط الهادي، بكل الهالة التي أحاطت بشخصيته، وبكل الشطط الذي ميز تصرفاته، بما فيها طلبه الرسمي من الإدارة الأميركية قصف الصين بالقنابل النووية لتأديبها ـ فقط للتأديب ـ إبان اندلاع حرب كوريا، والدور الصيني الذي قهر الأميركيين وكتب أول هزيمة على علمهم بعد الحرب العالمية.
من حق أول وزير حرب أميركي أسود القلب أن يتناسى خدمته الطويلة بالعراق ـ مثلًا ـ والذي شهد ولا يزال حمامات دم كلها تعود إلى القرار الأميركي، وأفغانستان، وغيرها من بقاع لم يدخل إليها الأميركي إلا وتصاحبه رسل الموت والخراب والدمار، فطالما كان القتلى غير أميركيين، وبعيدين جدًا إلى هذا الحد عن الأرض الأميركية، فلن يقابل الجنرال الآن أو مستقبلًا أي حساب على الدم.
وكجنرال يجري تقديرات استراتيجية لموقفه بدقة، ويحسب الحساب دقيقًا في احتمالاته، يظن إنه مثل نابليون، عليه إنقاذ الجمهورية من أعدائها ومن نفسها ومن مواطنيها أيضًا، فجر أوستن تصريحه خلال اجتماع مع وزيري دفاع اليابان وأستراليا، ذلك التصريح الموجه أساسًا ورأسًا إلى الصين، في ظل لوم مبطن من الحلفاء للولايات المتحدة على تقاعسها في مواجهة التنين الأصفر، وتراجعها عن سياسة دونالد ترامب المتهورة في حصارها، والذي جعله جو بايدن يتداعى ويوشك على السقوط تمامًا، وسبب اللوم هو أن هذا التقاعس الأميركي غير مفهوم لأصدقاء واشنطن في آسيا، ونتيجته هو أن النظام الصيني يقوى ولا يضعف، ما يشكك في صحة نوايا وصدق عزم السياسة الأميركية بعزل الصين، والأهم حماية حلفائها.
من حقنا وواجبنا، على أنفسنا أولًا، أن نعيد التذكير بكلمة سماحة سيد المقاومة وسيد الوعد الصادق في كلمته قبل أسابيع، وهي حقيقة نزيهة مجردة، بأن الولايات المتحدة رغم عمرها القصير جدًا بين الدول، تعد أكثر بلد في العالم قد خاض حروبًا، وكلها عدا الهجوم على "بيرل هاربر"، لم تكن إلا عمليات غزو أشبه بعمليات القرصنة القديمة، جريًا وراء مصالحها وتكديسًا للثروات المسروقة من كل أنحاء المعمورة، وأنها قامت حين قامت على جثث عشرات الملايين من الأميركيين الأصليين، أو من دعاهم الأوروبيون بالهنود الحمر.
الولايات المتحدة، مثلها مثل أي قوة عالمية سابقة، قد اخترعت لنفسها من أساليب التدخل ما يناسبها، وما يحقق مصالحها العابرة للقارات، سواء في وجود قوة عالمية مناوئة ـ الاتحاد السوفياتي الأسبق ـ أو في عدم وجودها، بما يجعلها تمتلك أسباب الفعالية، وتستطيع حيازة قدر هائل من الحرية في العمل، على امتداد قارات العالم، وفي كل ركن فيه.
الغواية كانت هي الأسلوب الأميركي الدائم والأول والمفضل للعمل في كل قصص تدخلاتها الخارجية، والأقدر على اختبار طرق جديدة تمامًا، والدخول الهادئ، واكتشاف البلد، قبل أن تتكفل القوى الأميركية الناعمة بدور الثعبان النائم، والذي يتعرف سريعًا على الثغرات، ويستميل القيادات أو الفاعلين الرئيسيين في البلد، قبل أن يحاول تجنيد من استطاع والتخلص من كل رافض للتواجد الأميركي، الذي يصبح ثقيلًا وجشعًا يومًا بعد الآخر، ووسط هذا كله يجري إغراء الشعب المستهدف بالنمط الأميركي في الحياة، الحرية والتقدم والحقوق، وتنشط أبواق المجتمع المدني ـ الظهير الثقافي للدخول الأميركي ـ في تهوين الجبهة الداخلية للبلد وقتل عزيمتها وتفتيت مقاومتها، إن وجدت.
وفي مراحل تالية، كان الدفع بقوة وحقيقة أن الولايات المتحدة تعتبر نفسها، ويعتبرها الآخرون، قمة العالم الحر، كما هي خزينة تمويله القادرة، ومركز قوته وسيطرته المالية النافذة إلى كل اتجاه، وعبر أعصاب كل نظام المال العالمي، وكانت المرحلة الثالثة مرتبطة جذريًا بنهاية الحرب العالمية الثانية، حيث بدت القوة الأميركية ـ حينذاك ـ لا تضاهى، قادرة هي إن أرادت على النفع عبر المساعدات الاقتصادية، كما جرى في "مشروع مارشال" لإعادة إعمار أوروبا الغربية، أو الضرّ وضرب استقرار المجتمعات، عبر أعمال المخابرات المركزية وجرائمها، التي تستحق فصولًا في سبيل كتابة وعي إنساني شامل عن دولة الشيطان الأكبر.
وقبل كل الأساليب الخفية والظاهرة، الناعمة أو الثقيلة في العمل، كانت القوة الأميركية المتفوقة تمامًا والمتفردة في ما وصلت إليه من خلاصات علوم البشر في التدمير والقتل الجماعي الواسع، جاهزة، وكانت خطط العمل حين تحل اللحظة المناسبة محفوظة وموجودة، وحين علا نجم الولايات المتحدة، كانت مصانع السلاح جاهزة لا تعاني نقصًا في الموارد القادمة من العالم الثالث، ولا تعاني قلة في الأيدي العاملة، التي تتكفل الهجرة بفرزها واختيار الأفضل والأجهز من بينها، وكانت القوة تتحرك حين تؤمر، لتضغط على الأعصاب عصرًا، أو تسحق الرافضين خنقًا، وكان النظام العالمي، ولا يزال، يعاني مع قواعد أميركية بطول العالم وعرضه، خارج سيطرة حتى الدول التي تقع اسميًا على أراضيها.
في النهاية، فإن مرحلة التدخلات الإمبراطورية، وفلسفة الاكتساح العسكري، قد انزوت إلى غير رجعة من التاريخ العالمي، سواء بفعل المتغيرات التي طرأت على وعي الشعوب، أو قدرات التسلح المؤثر وواسع المدى المتوافر لدى أطراف دولية تعارض مصالح الولايات المتحدة، ولديها القدرة على تقديم المساعدات العسكرية، التي تجعل من تكاليف عملية التدخل السافر فوق طاقة المجتمع الأميركي على الاستيعاب، وفوق قدرة الرأي العام هناك على القبول.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024