نقاط على الحروف
تطوير صناعة "الكليجة" ومشاريع أميركا العملاقة في العراق!
بغداد - عادل الجبوري
"لنستكشف أحدث تقنيات صناعة المخبوزات ومعداتها! لتعزيز التجارة بين الولايات المتحدة والعراق، نفذت السفارة الامريكية في بغداد زيارة 24 من رجال الاعمال العراقيين الى معرض صناعة المخبوزات والمعجنات الدولي في لاس فيغاس، وهو اكبر معرض امريكي لمعدات المخابز المعروضة للبيع.. نحن نحب الكليجة"!.
هذا الخبر -او الاعلان- نشره الحساب الرسمي للسفارة الاميركية في بغداد في الثاني والعشرين من شهر ايلول - سبتمبر الماضي، الذي يهتم بنشر وترويج مجمل الفعاليات والنشاطات والتحركات التي تقوم بها السفارة بمختلف مفاصلها السياسية والاقتصادية والثقافية، وكذلك الترويج لمختلف المشاريع التي تقوم بها الولايات المتحدة في العراق. وطبيعي ان الاولوية في النشر والترويج تكون للاخبار والتقارير المتعلقة بنشاطات ومشاريع تحظى بقدر كبير من الاهمية ولها انعكاسات واثار كبيرة.
واستنادا لذلك، فإن خبر زيارة اربعة وعشرين من رجال الاعمال العراقيين الى الولايات المتحدة الاميركية للمشاركة في معرض دولي لصناعة انواع الخبز والمعجنات الغذائية المختلفة، يعد شيئا متميزا ومهما بنظر الجهات المنظمة والمروجة له.
وهنا لا بد من التوقف عند هذا التقدير الغريب للاشياء، الذي يعكس قدرا كبيرا من الازدواجية، واستغفال المتلقي، والخداع والتضليل، وخلط الاولويات وترتيبها بطريقة معكوسة بالكامل.
اذ كيف يمكن ان نفهم اهتمام الولايات المتحدة الاميركية بتنظيم فعاليات من هذا القبيل ودعوة اصحاب رؤوس الاموال العراقيين اليها، لغرض توظيف واستثمار اموالهم في صناعة "الكليجة" وغيرها من المعجنات، في وقت يحتاج بلد مثل العراق الى ان يوظف كل قدراته وامكانياته المالية والبشرية والفنية لاصلاح قطاعات الزراعة والصناعة والتعليم والصحة، وتطوير بناه التحتية ومنشآته الحيوية.
ربما يقول قائل ان الولايات المتحدة ساهمت في الكثير من المشاريع الخدمية والخطط الاصلاحية للقطاعات الحيوية المهمة في العراق، وان مشروعها لتطوير صناعة المعجنات هو واحد من مشاريع ومبادرات كثيرة.
قد يكون ذلك صحيحًا إلى حد ما، ولكن علينا أن نتساءل إلى أي مدى ساهمت مشاريع وخطط ومبادرات أميركا في حل ومعالجة الكمّ الهائل من الأزمات والمشاكل الحياتية التي يعاني منها العراقيون منذ عقود من الزمن، علما أنها - أي أميركا - كانت المسبب الرئيسي للجزء الأعظم من تلك المشاكل والأزمات، سواء في ظل نظام حزب البعث السابق، الذي تسلط على البلاد والعباد طيلة خمسة وثلاثين عاما (1968-2003)، أو خلال مرحلة ما بعد ذلك النظام، التي شهدت الكثير من المآسي والكوارث والويلات تحت وطأة الاحتلال الأميركي.
وبعيدًا عن العدد الهائل لضحايا الاحتلال الأميركي من قتلى وجرحى ومشردين ونازحين، ودمار وخراب لا مثيل له، يمكن أن نشير فقط إلى أن أميركا لم تعالج مشكلة الكهرباء في العراق، والأصح أنها منعت معالجتها، رغم ما أنفق من أموال طائلة على هذا القطاع، والذي لم تكن شركة جنرال اليكتريك الأميركية الرائدة في هذا المجال بعيدة عنه.
ولعل المفارقة الملفتة، هي أن الولايات المتحدة الأميركية التي كان لها الدور الأكبر في تدمير العراق واعادته كثيرًا إلى الوراء، تريد اليوم أن تعلمه كيف يصنع "الكليجة" وغيرها من المعجنات، التي قلما تجد بيتًا عراقيًا لا يقوم بصناعتها واعدادها، سواء في المناسبات الاجتماعية والدينية، أو خلال الأيام العادية. ولعل تسطيح الوعي والاستغفال يبلغ مستويات عالية جدًا، حينما يذهب أصحاب رؤوس الأموال إلى أميركا ليتعلموا كيف يستثمرون أموالهم في هذا القطاع "الحيوي المهم"، بدلًا من اعادة تأهيل المصانع المدمرة، أو انتشال الزراعة من واقعها البائس، أو تطوير الجامعات والمؤسسات العلمية والأكاديمية المختلفة، أو سد النقص في قطاع الصحة وتحسين واقع الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين.
المعروف منذ زمن طويل جدًا، أنه إذا أريد إحكام السيطرة على مجتمع ما، فإنه قبل اللجوء الى الوسائل والأساليب العسكرية المسلحة، ينبغي اشغاله في المشاكل والازمات الحياتية المختلفة، وزرع الفتن في جسده، واغراقه بسفاسف الأمور وثقافة التحلل والفساد الخلقي، وجعله مجتمعًا مستهلكًا وكسولًا واتكاليًا في كل شيء بدلًا من أن يكون منتجًا ومبدعًا وفاعلًا. وللأسف نجحت الولايات المتحدة إلى حد ما، ومعها قوى أخرى في العمل بهذا المنهج في العراق.
ويتذكر الكثيرون كيف كان السفير البريطاني السابق في العراق ستيفن هيكي يشغل بعض الاوساط والمحافل الاجتماعية والثقافية والسياسية العراقية بما ينشره ويبثه في منصات التواصل الاجتماعي وهو يقوم بطبخ الاكلات العراقية المشهورة، ليبدو طباخا (شيف)، اكثر من كونه رئيسا لبعثة دبلوماسية لها مهامها وادوارها المحددة، او حينما كان يتجول بالدراجة الهوائية مع هذا السياسي او ذاك. ولا شك ان ما كان يقوم به السفير المذكور، لم يكن تصرفًا عفويًا عابرًا بقدر ما كان جزءًا من عمليات الاشغال والالهاء وتسطيح الوعي.
وبلا أدنى شك، فإن الفرق كبير جدًا بين من ينشغل ويشغل الآخرين بصناعة المعجنات تاركا عن عمد القضايا الأكثر أهمية وحساسية وخطورة، وبين من يذهب الى ما هو حيوي وهام بالنسبة للناس، وربما ينطبق ذلك على الصين وايران ودول أخرى، وقد يكون ما نشره الحساب الرسمي للسفارة الصينية في بغداد على الفيسبوك مثالا ومصداقا يعتد به، فقد ذكر الموقع أن شركة "بتروجاينا" الصينية العاملة في قطاع الصناعة النفطية العراقي، نفذت 25 مشروعًا خدميًا بقيمة عشرة ملايين دولار، يستفيد منها 500 ألف شخص، من قبيل انشاء محطات معالجة المياه، وبناء المدارس والمراكز الطبية وما الى ذلك، وطبيعي انه من حق العراقيين أن يطالبوا بتفعيل الاتفاقية العراقية الصينية التي أبرمت قبل ثلاثة أعوام، بيد أنها بقيت مجمدة ومركونة على الرف بسبب الأجندات السياسية والضغوطات الأميركية، بينما تريد وتخطط واشنطن لاستثمار الأموال الطائلة والقدرات البشرية الهائلة في العراق لتطوير صناعة "الكليجة"!.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024