نقاط على الحروف
العملية "بابل".. تهديد أم عجز؟
أحمد فؤاد
قليلة هي الفترات التي تمضي فيها مسيرة التاريخ ببطء، وتخطو بلا صخب، وتمر ساعاتها بلا دقات تحذر وتنبه، وغالبًا ما نلاحظ هدوء التفاعلات وبرودتها قبل لحظات مفصلية كبرى، تتوج تغيرًا معمدًا بالدم لأوضاع يعجز كل أطرافها عن التعايش معها والخضوع لشروطها.
في هذه الأيام الحبلى باحتمالات صدام واسع، والمعبأة أصلًا بأسباب تودي بكل أطرافها إلى ساحات القتال والاحتكام للبارود والنار، اختار الكيان العدواني أن ينشر ـ وللمرة الأولى على الإطلاق ـ صور طياريه ممن شاركوا في العملية التي يقول سلاح طيران العدو إنه شنها على سوريا في العام 2007 لتدمير ما أسماه المفاعل النووي في دير الزور.
يحاول الإعلام الصهيوني الهروب للأمام من مأزقه الحالي، والواقع أن معادلة "كاريش وما بعد كاريش وما بعد بعد كاريش"، قد خلقت نوعًا من الثقة بقدرة طرف عربي وحيد وهو "المقاومة" على الخروج من حالة العربي المفعول به إلى العربي الفاعل، وإضافة إلى أنها المرة الأولى في تاريخ الكيان القصير الذي يمضي وفوق رقبته سيف تهديد قائم وقادر، فإن الثقة التي خلفتها لدى الشعوب العربية، حتى التي ترزح تحت قيود أنظمة تابعة وعميلة، أثمن وأغلى من أن توضع في تقييم.
هنا تحركت آلة الإعلام الصهيونية، وفجأة، وبالتزامن، وباستخدام صورة قديمة نسبيًا، تسعى آلة النفير الصهيونية لربطها بذكاء لافت بالعملية الأقدم "بابل" أو "أوبرا"، لقصف مفاعل "تموز" العراقي في العام 1981، لمحاولة تحقيق جملة أهداف طفت من العدم إلى سطح الأحداث، فمن جهة، يحاول الصهاينة محو أي آثار لتهديدات حزب الله وسماحة السيد حسن نصر الله من وجه جيشهم المتداعي، ومن جهة أخرى يعملون على جلد الذاكرة العربية بواحدة من أكثر لحظاتها بؤسًا، وما أكثرها.
الخلطة الصهيونية الجديدة، والموجهة للجمهور العربي بالأساس، حملت كل ما يمكن من أسباب انتشار الخبر، أو الدعاية في صورة خبر، ففي قصة ضرب مفاعل "تموز" العراقي الكثير جدًا من المفاجآت، وأكثر منه الغموض الذي لف العملية كلها ومجرياتها، وارتباطها بالتاريخ القديم باستخدامها "بابل" كرمز أو اسم سري للعملية، واستدعاء للدين وللوعود الإلهية، وهي إن كانت فرصة مفيدة ومثيرة لقارئ عربي، فإنها ستبقى دائمًا تجربة مؤلمة ومحزنة للغاية.
غازلت الصورة الصهيونية هوى لدى بعض المرجفين وضعاف النفوس، ممن تميل قلوبهم لتصديق أي رواية صهيونية ـ أو أجنبية بالعموم ـ وتكذيب وجهة النظر العربية ابتداءً، والمعترفين مقدمًا بأسطورة التفوق الصهيوني الجوي على كل الدول العربية مجتمعة، وهي كلها سلسلة متصلة من الأكاذيب، لا تعود لقدرة صهيونية غير عادية أو فوق مستوى قدرات الإنسان العربي، لكنها تعود بالأصل لإرادة غربية جعلت من الكيان رأس حربة متقدمًا لهم، وحاملة لطائراتهم في محيط عربي يمنع عليه استيراد أو صناعة ما يجاري السلاح الصهيوني.
وعلى عكس الخريطة الجغرافية التي تضع أحكامها دون جهد على ورق ملون، تظهر فيها التضاريس كلها مرة واحدة وواضحة أمام الأعين، الصحارى بألوانها الصفراء، والحقول الخضراء والجبال بألوانها البنية المتدرجة بين السفوح والقمم، فإن الخريطة السياسية العربية لم تعرف هذا الوضوح على الإطلاق، وأي ناظر لخارطة الطائرات الصهيونية التي دخلت تضرب مفاعل العراق، وقرب قلبه تمامًا بغداد، ومرت من أجواء 3 دول عربية في ذهابها وإيابها، دون أن تثير حتى الفضول لدى دفاعاتها الجوية أو أجهزة استخباراتها، لا تكشف وفقط عن غموض معتاد يميز العلاقات العربية، لكن عن مؤامرة قائمة ومستمرة تستهدف أول ما تستهدف الإيمان العربي بالقدرة والحق في الوجود والحياة.
بالإضافة إلى النتيجة المباشرة للعملية بتدمير مفاعل "تموز" العراقي النووي "أوزيراك"، فإن ما جرى صباح اليوم السابع من حزيران/ يونيو من العام 1981،قدم خدمة لا تقدر بثمن لصورة الكيان الصهيوني الذهنية في العالم عمومًا، وفي العالم العربي خصوصًا، فقد أظهرتها بشكل القوة التي لا تضاهي، القادرة على المبادرة والفعل، المتحملة لعواقب حركتها، وقبل أي شيء، هي القوة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تملك عنصر المبادأة.
وحقق الطيران الصهيوني ما خطط له من نجاح، وفاق صدى العملية كل حد متصور، ونفذت 14 طائرة فقط مهمة كادت لتكون مستحيلة، وتسللت إلى وسط العراق، عبر الأراضي المصرية والأردنية ثم السعودية، وانهت التهديد النووي العربي قبل حتى أن يصل إلى مستوى التهديد، وانسحبت بخسائر 0%.
ما يمكن الاستفادة منه في قصة المفاعل النووي العراقي، هي ذاتها ما يمكن استخلاصها من حرب النكسة حزيران/ يونيو 1967، لا جديد يذكر أو قديم يعاد، استطاع التخطيط الصهيوني أن يحصل على كل احتياجاته ونواقصه من الولايات المتحدة الأميركية، حيث تسلم الكيان طائرات F-16 القاذفة مطلع الثمانينيات فقط، وحصل على صور الاستطلاع الجوي والأقمار الاصطناعية الأميركية المحدثة أولًا بأول، ونشط العمل الاستخباراتي بموازاة الجهد العسكري، فجند الموساد عميلًا فرنسيًا من داخل المفاعل العراقي، وأمتدت أصابعهم القذرة لتغتال أحد أبرز علماء الذرة العرب في باريس، البروفيسور المصري يحيى المشد، وهُددت الشركات الفرنسية الموردة للمهمات إلى المفاعل النووي، وأخيرًا ضربت ضربتها الهائلة لتطيح بكل حلم في امتلاك سلاح نووي يستطيع موازنة فارق القوة أو ردعها عن العدوان.
على المستوى العربي، فإن ما يمكن قراءته أثقل من أن يحتمله القلب، فالقرار العربي وقع أسيرًا في يد مجموعة من المغامرين الفشلة، تستوي في ذلك الأنظمة الملكية (السعودية والأردن) أو جمهوريات الخوف (العراق ومصر)، الجميع يخدم نظرية الأمن والتفوق الصهيوني على العرب، بقصد أو بدونه، عن جهالة أو بوعي كامل.. يكفي أن مطارات العراق العسكرية، في الغرب والوسط، لم تتمكن من إطلاق رصاصة واحدة على الطائرات الصهيونية، في وقت كان العراق يخوض حرب صدام المجنونة ضد الجمهورية الإسلامية، والمفروض ان القواعد الجوية العراقية ومنصات الدفاع الجوي تخضع لأقصى درجات الجهوزية والاستعداد القتالي على مدار الساعة.
الأكثر إثارة للدهشة الممزوجة بالغيط والحنق، هو أن قيادة القوات الجوية الصهيونية قد راعت في مسار طائراتها وتدريباتها أن تطير بشكل مكشوف وبامتداد مساحات شاسعة، فوق الأردن والسعودية، حفاظًا على الوقود وتوفيرًا له للرحلة الطويلة اللاحقة، ولم تخرج من مطارات الدولتين طائرة للاستطلاع أو لاكتشاف الكارثة قبل وقوعها، ولم يجر إنذار العراقيين بالضربة الصامتة القادمة من الأصل.
كان التشرذم العربي القاتل هو العنصر الذي ضمن للكيان تفوقه وترسيخ هذا التفوق، كما في حرب النكسة، استفردت طائراتها بالعراق، ولم تتدخل أي قوة أخرى في مسار الصراع، وهو واقعنا العربي المستمر حتى هذا اليوم، لا يتوقع أي مخطط صهيوني أن يواجه في حرب واسعة أكثر من طرف واحد في كل مرة واحدة، وبالتالي يضمن له تركيز ضربته وثقلها على رأس واحد، ثم هو قادر على بقوة الضربة وعنف صدمة الهزيمة على وقف أي تفكير في ضربة انتقامية أو دخول حرب واسعة، وامتناع الطرف المهزوم عن التفكير ـ مجرد التفكير ـ في الدخول إلى مواجهة جديدة.
وبفعل غياب العقيدة عن معادلة القوة العربية، فإن كل الأنظمة التي واجهت الكيان منذ النشأة الشيطانية في 1948، كانت تتلقى الهزيمة تلو الهزيمة، وكإنه نوع من إدمان الانكسار والتراجع المساوم المستمر، صدام على سبيل المثال، والذي لا يزال يروج له على أن بطل قومي عروبي من بعض أبواق الخليج في الفضائيات العربية، قاد بلاده إلى خراب مكثف، وكان يمارس حربه الفعلية على الشاشات وببزة عسكرية كاملة، تزينها النياشين والأنواط البراقة الزائفة وعلامات الرتب الزاهية فوق أكتافه، لكنه لم يمض خطوة واحدة إلى فلسطين، وأثبتت عملية "بابل" أن التخطيط العسكري العراقي لم يكن يضع في حساباته القضية الفلسطينية أو الكيان الصهيوني، وبالتالي لم يتمكن الجيش العراقي من مواجهة التهديد أولًا، ثم اضطر لابتلاع الضربة مع كرامته المبعثرة لإنه لا يملك من الأصل خطة للرد على العدوان.
وكما فعل صدام حسين في حرب الخليج الثانية بإطلاق عدد من الصورايخ على المستعمرات الصهيونية، سعيًا لحلحلة الموقف العربي، وتصوير النزاع على أنه نزاع عربي/ صهيوني، فإن البرنامج العراقي النووي كان خاضعًا بالكامل لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقبل ذلك، كانت فرنسا الموردة للمفاعل النووي وللوقود اللازم لتشغيله، وللعمالة الفنية المدربة، تورد للعرب شكلًا خاليًا من أي مضمون، فلا تكنولوجيا وطنية دون مشروع وطني يسبقها ويسندها بالكوادر المحلية المناسبة والقادرة، وكانت قدرات المفاعل طبقًا لشهادة الأميركي ريتشارد ويلسون، أستاذ الفيزياء في هارفارد، والذي فحص المفاعل العراقي في أواخر عام 1982، وحكم بأن المفاعل مصمم خصيصًا لكي لا يمنح القدرة على إنتاج سلاح نووي، ووصل التصميم بأستاذ هارفارد الإصرار على تحديه لأي عالم فيزيائي أن يقدم له شرحًا يكشف عن إمكانية قيام المفاعل بإنتاج بلوتونيوم مخصص للأغراض العسكرية من الأصل، في مقابلة أجريت معه 2012.
إننا هنا نتحدث عن حقيقة أعمق من المؤامرة، وأشد خطرًا منها على النفس والوطن والإنسان، إن صدام حسين كان يحاول امتلاك أو تمرير فكرة حيازة سلاح نووي، فيما هو بالفعل يعجز عن إنتاجه أو صناعته، لكنه ظل ينفخ في كرة النار حتى وصلت أقصى امتدادها وتأثيرها، وهنا يأتي دور الصهيوني، الذي يستغل الكرة العراقية المنتفخة في دعايته، فيضرب مفاعل الأبحاث، ويصنع هو الآخر ـ من الوهم المتجدد ـ حقيقة جديدة تناسب مخططاته، وترفع الحقيقة بالانتشار والتكثيف إلى مستوى جديد من اليقين المعمد باختبار الدم والنار والإرادة.
الحقيقة في ما جرى في العراق، في ذلك الصيف البعيد من عام 1981، هي أن الجبهات العربية أضعفت نفسها بأكثر من قدرة الكيان على الفعل بمراحل، وأن الشعوب العربية قد تصدعت بفعل أنظمتها الحاكمة، قبل أن تتفتت قواتها وسلاحها على جبهة القتال أمام الصهاينة، وأن قيادة أبواق الفتنة وأربابها للعالم العربي لم تقد إلى أي تقدم، تعسف في التعاطي مع الحاضر وقصر في أدوات التعامل مع المستقبل، لتحول الواقع العربي ـ كله على بعضه ـ إلى فعل ماضٍ لا يعرف أي طريق للغد.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024