نقاط على الحروف
"العمالة": قبل الفضاء المجازي وبعده
ليلى عماشا
* قبل التحرير - داخل المنطقة المحتلّة
العميل يظهر بشكل واضح بين الناس، مسلّح في أغلب الأحيان، يجاهر بعمالته بل ويستثمرها بشكل مباشر ضد أهل المنطقة بموازاة مهامه المكلّف بها من رؤسائه والتي هي حكمًا ضدّ أهل المنطقة. يفرض خوّات، يهدّد مستخدمًا إمكاناته الترهيبية، يضع يده على ممتلكات... في بعض الأحيان، قل في ساعات صفاء، يبرّر عمالته بالخضوع للأمر الواقع المتمثّل بالاحتلال المباشر، أو بالعجز عن المواجهة وعن مغادرة المنطقة، أو بكونه يعتبر ما يفعله هو "وظيفة" لا تختلف عن سائر الوظائف.. يقدّم بعض الخدمات للمحيطين به على سبيل استخدام علاقته بالمحتلّ، ويحاول أحيانًا الظهور بمظهر "الآدمي" المهتم بشؤون الناس. مهامه تتراوح بين ضبط الأمن في المنطقة وحراسة أماكن التواجد "الإسرائيلي" أو الخدمة في مراكز العملاء والاحتلال أو ترهيب السكان أو التحرّي عن إمكانية وجود نشاط للمقاومة في بقعة جغرافية محدّدة. بالإضافة إلى الكثير من المهام الأخرى والتي يمكن لكلّ من سكنوا الأرض المحتلة تعدادها بكل أشكالها.
* قبل التحرير - خارج المنطقة المحتلة
العميل هنا مجنّد سريّ، مدرّب ويحمل اسمًا وهميًا يختلف عن اسمه الحقيقي في أغلب الأحيان ويستخدمه في تواصله مع العدو أو مع العملاء الآخرين في شبكته وفي الشبكات الأخرى، مجهّز بوسائل اتصال خاصة تمكّنه من نقل المعلومات التي يحصل عليها بسريّة، يعيش بين الناس خلف قناع اجتماعي أو مهني أو حتى وطنيّ. هذا الصنف كان في أغلب الأحوال يتعامل مع العدو لغايات ماديّة على اعتبار أن المشغّل يدفع مقابل خدمات العملاء مبالغ طائلة تغريهم بالبقاء في سلك العمالة والتدرّج فيه حفاظًا على المكتسبات المادية المحققة بجهد قليل. ولأن استمراره في عمالته يحتّم عليه البقاء داخل دائرة العمل السرّي، يدرك هذا النوع من العملاء حجم الخسارة المترتبة على انكشافهم، والتي لا تشمل فقط الخسارة المادية والحكم القضائي أو الفرار خارج البلد، بل تتعداها إلى وصمة اجتماعية لا تزول. مهام هذا النوع تتراوح بين دور المخبر ودور المنفّذ لعمليات محدّدة كقتل المقاومين مباشرة أو تسليمهم أو الإشارة إلى أماكن تواجدهم.
* بعد التحرير
يشبه "بروفايل" عملاء ما بعد التحرير زملاءهم في فترة ما قبل التحرير والذين نشطوا خارج المنطقة المحتلة، مع الاختلاف في طبيعة المهام والتي تخطّت تلك التي كانت قبل التحرير وأصبحت أحيانًا تأخذ طابعًا سياسيًا أو اجتماعيًا في ظل حاجة "الإسرائيلي" إلى أدوات ناطقة باسمه.
هذه اللمحة السريعة عن تغيّر ملامح العملاء منذ ما قبل 2000 إلى ما بعدها تشمل فقط العملاء الذين جرى تجنيدهم على أرض الواقع وسواء بالتواصل المباشر مع الصهاينة أو عبر وسطاء هم في أغلب الأحيان عملاء أيضًا.
أما في الفضاء المجازي، فوجه العميل مختلف تمامًا، وكذلك دوافعه وأهدافه.
قبل الدخول في تفاصيل العميل المجنّد عبر منصات التواصل، ينبغي التذكير بأن منصات التواصل على اختلافها هي ميدان قتال في إطار الحرب الناعمة، وبالتالي إنّ الحضور فيها وعبرها ضروري ومهم جدًا ولكنّه محفوف بالمخاطر ولا سيّما إذا أشرنا إلى الجهد المنظم الذي يبذله الصهاينة على هذه المنصات واستخدامهم إياها كأرض خصبة يسهل فيها تجنيد العميل، متخلين بذلك عن الكثير من معايير الانتقاء.
جرت العادة أن تكون معايير انتقاء المرشّح للعمالة ثابتة، وأن يكون تجهيزه وتمكينه من أداء دوره مكلف على مختلف المستويات، ولا سيّما ماديًا وزمنيًا، بالإضافة إلى حرص المشغّل على مواصفات ومميّزات تتعلّق بشخصية العميل أو بنمط حياته أو حتى في مجال حركته وعلاقاته. لكن مع نشوء الفضاء الافتراضي وتحوّله إلى ساحة يسهل اصطياد المرشحين للعمالة عبرها، اختلفت المعايير والمواصفات عما كانت عليه في السابق، وكذلك انخفضت تكلفة إعداد العميل وبلغت مستوى "البلاش" في كثير من الحالات.
شبكات العملاء التي يتواصل توقيفها تمكّن المتابع من رسم وجه دقيق للعميل اليوم: هو شخص "ناشط" افتراضيًا، ذو طرح سياسي يعادي المقاومة ويضع لائحة من الذرائع التي تجعل موقفه العدائي "مبرّرًا" بنظر البعض اعتمادًا على مقاييس الرأي السياسي الفضفاضة. أجره قد يكون زهيدًا جدًا ومهامه قد لا تتعدّى نشر شعار هنا أو كذبة هناك. بعض من هذا النوع تورّط في العمالة مع سبق الإصرار والترصّد، وبعضهم لم يكن على علم أصلًا أن الجهة التي يقوم بتقديم خدمات الجاسوسية لها هي الصهاينة.. البعض الأوّل يتورّط أحيانًا بدافع الحقد على حزب الله وقد يقدّم للصهاينة خدمات مجانية فقط كي يساهم في صناعة الأذيّة للمقاومة، وقد رأينا نماذج متعدّدة من هذا النوع. أما البعض الثاني فهو ببساطة فاقد للحسّ الأمنيّ، جرى توظيف قلّة حرصه في خدمة الصهاينة وتمَّ استدراجه إلى العمالة سواء بالمغريات المادية الزهيدة أو بالوظائف الوهمية مع جهات خارجية أو منظمات غير حكومية تخفي حقيقة تمويلها.
العميل عبر المنصّات الافتراضية يشير إلى نفسه ويكاد "يصيح خذوني" وإن عبر أدلّة تُصنّف بالظرفية ولا يمكن اعتمادها وحدها في إثبات الشبهة عليه، ومنها مثلًا التعبير الصريح عن الحقد على كلّ ما يرتبط بالمقاومة وبيئتها، الدعوة المباشرة إلى التطبيع وغيرها من المؤشرّات التي لا يمكن مقاربتها إلّا من باب كونها تؤدي خدمة للصهيوني.
يستقوي هؤلاء بحال الفوضى السائدة في البلد والمستشرية مع تدهور الوضع المعيشي، ومع وصول بعض من الخطاب الصهيوني الخام إلى منابر السياسة والمحطات الموظّفة من السفارات لتعميم الخطاب العميل، بالإضافة إلى الأحكام القضائية المتساهلة مع جرم العمالة.. يستفيدون من كلّ هذه العناصر لصناعة جوّ يتيح لهم التحرّك الآمن بين الناس ولو افتراضيًا.
كثرت الوسائل التي يتسلّل الصهيوني عبرها إلى يومياتنا والتي يضع عبرها الأفخاخ للإيقاع بأكبر عدد ممكن من الأفراد ليحوّلهم إلى عملاء، قل إلى جيش الكتروني عميل، ومنها عروض العمل المغرية والتي تأتي من مصادر مجهولة أو حلقات التعارف التي تمكّن الصهيوني من الإيقاع بالأفراد عبر توريطهم في محادثات الكترونية فاضحة تتحوّل فيما بعد إلى وسيلة ابتزاز، وغير ذلك من الأساليب المستجدّة التي يستخدمها الصهيوني وأدواته. لأجل كلّ هذا، ثمّة ضرورات طارئة ينبغي العمل عليها ومنها التوعية من مخاطر التواصل مع مجهولين مهما كان حجم هذا التواصل، ومنها التحذير المستمر من إبرام أي اتفاقات عمل مع مصادر مجهولة، ومنها الالتفات إلى خطورة الجهات التي تطلب بيانات معيّنة ولو في لعبة الكترونية.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024