نقاط على الحروف
عندما تُصبح "النهار" دولة تمنح وتنزع الهوية اللبنانية
فاطمة سلامة
"حزب الله" يستعين بالدولة في الضاحية كما يستعين بوتين بـ"فاغنر"!. تحت هذا العنوان كتب أحدهم في جريدة "النهار" مقالًا للحديث عن تدخل الدولة الأمني في الضاحية. للوهلة الأولى، من يقرأ الكلمات الواردة ولا يعرف أين تقبع الضاحية، قد يخال أنها منطقة خارج لبنان، بمعنى أنها خارج مسؤولية الدولة. أما الطامة الكبرى فوردت بعبارة "فاغنر". اعتماد التشبيه في هذا الصدد غير موفّق. شتان ما بين "فاغنر" التي يصفها البعض بالشركة العسكرية الخاصة، والدولة اللبنانية التي تضم أجهزة أمنية رسمية مهمّتها لا بل واجبها بسط الأمن على الأراضي اللبنانية كافة دون استثناء.
الغوص أكثر في متن المقال يُبيّن إيمان الكاتب واعتقاده بأنّ الضاحية الجنوبية لبيروت ليست لبنانية. يتجلى هذا الاعتقاد في أكثر من مورد، فالمقال الذي يقارب ازدياد عمليات الإخلال بالأمن في الضاحية الجنوبية لبيروت، ينتقد مطالبة حزب الله وحركة "أمل" الأجهزة الأمنية التعاطي بحزم مع كل مخل بالأمن، ويسأل: لماذا إذًا تستعين عاصمة دولة "حزب الله" بقوى أمنية من دولة لبنان؟. طبعًا هذه الصِبغة على الضاحية الجنوبية ليست جديدة، ولطالما وُصفت الضاحية بأنها دويلة حزب الله من قبل المغرضين.
نعم ينعتونها بدويلة حزب الله لأنها تغص بالمشاريع والمؤسسات التي أوجدها حزب الله لخدمة شعبها. يبدو أن المطلوب هو استفحال عجز الدولة عن الإنماء وافتقار الضاحية الى أبسط مقوّمات العيش والخدمات حتى تبدو أنها لبنانية. والسؤال هنا: من يمنح وينزع الهوية اللبنانية عن أي منطقة؟ هل تحوّل الكاتب ومعه "النهار" الى دولة تشطب من تريد من قائمتها؟. أليس في ذلك تحريض على ما يقارب المليون شخص يقطنون في هذه المنطقة؟ أليس في ذلك تحريض على تعامل الشعب اللبناني مع شريحة واسعة من اللبنانيين على أنهم غير لبنانيين؟!. أليس في ذلك إساءة واضحة ومخالفة لروحية الدستور اللبناني الذي ينص على أن لبنان وطن لجميع أبنائه وواحد أرضًا وشعبًا ومؤسسات؟ أليس في ذلك مخالفة واضحة وصريحة لروحية الدستور والقوانين التي تنص على أن جميع اللبنانيين سواسية ويتمتعون بالحقوق المدنية ذاتها؟.
واللافت أنّ الكاتب يسترسل في إقناع القارئ بأنّ الضاحية ليست لبنانية، فيقول: "ما يجب توضيحه، قبل المضي في هذا الموضوع، أن الضاحية الجنوبية لبيروت، هي ليست عمليًا ضاحية لعاصمة لبنان، بل صارت فعليًا عاصمة لـ"دولة" الحزب منذ الثمانينات بعد نشوء الحزب واشتداد ساعده إثر تأسيسه على يد الحرس الثوري الإيراني غداة الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان عام 1982..."". وهنا نسأل: هل كان المطلوب حينها أن يقف حزب الله على الحياد ويرفع الرايات البيضاء مستسلمًا للعدو الصهيوني ليحتل لبنان من الشمال الى الجنوب؟. هل كان المطلوب الاستسلام لعجز الدولة في الدفاع عن لبنان وتسليم الرقاب للعدو؟. ما المانع أن يخرج من رحم الوهن والضعف قوّة وحزب للدفاع عن لبنان بشتى الوسائل؟. هل الحياد يعطي هذه الفئة الجنسية اللبنانية؟ ما المانع أن يتلقى الحزب الدعم الخارجي في وجه عدو الأمة؟.
إدراج الضاحية الجنوبية كدويلة لحزب الله -كما ذكرنا- ليس جديدًا، لكن ما يستدعي التوقف عنده هو كتابة مقال لانتقاد بسط سيطرة الدولة في هذه المنطقة، ما يدعنا نسأل عن المطلوب. هل المطلوب العبث بأمن الضاحية التي تشهد كغيرها من المناطق -طبعًا- أحداثًا أمنية وتوسع رقعة التفلت الأمني؟. ما يستدعي التوقف عنده هو سلخ صفة اللبنانية عن هذه المنطقة. سنذهب أبعد من ذلك مع الكاتب. نعم الضاحية هي منطقة يمتلك فيها حزب الله نفوذًا، تمامًا كحال العديد من المناطق التي تمتلك فيها الأحزاب نفوذًا. والسؤال هنا: أليس حزب الله حزبًا لبنانيًا ممثلًا في البرلمان اللبناني بنسبة كبيرة ويمتلك قاعدة شعبية مهمّة؟!. ولإنعاش ذاكرة الكاتب فإنّ مرشّح حزب الله النائب أمين شرّي حصد في بيروت عاصمة لبنان أصواتاً تفضيلية جعلته يتفوق آنذاك على الرئيس سعد الحريري، بل ويحتل المرتبة الأولى بين المرشحين.
يترك الكاتب الحديث عن الضاحية قليلًا، ليتحدّث عن قوات "فاغنر"، علّه يصيب في التشبيه. يتبنى بالحرف ما يقوله مسؤولون أميركيون من أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلجأ إلى "فاغنر" لمساعدته في حرب أوكرانيا مع تعثّر القوات الروسية النظامية. وفي معرض حديثه، يُشبّه حزب الله ببوتين و"فاغنر" بالدولة اللبنانية، قبل أن يعود الى لبنان، قائلًا: "بالعودة الى لبنان، رأى عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" التابعة للحزب النائب حسن عز الدين "أنّ أعداء المقاومة وخصومها في الداخل والخارج وعلى رأسهم أميركا، يزجّون في معركتهم الانتخابية، بل في حربهم السياسية، بشعارات لا علاقة لها بالانتخابات مثل "نزع سلاح حزب الله، ومواجهة السلاح، وتحرير الدولة من حزب الله وغيرها من الشعارات"، ويضيف عز الدين "إن بعض المرشحين بدأوا يعملون على ضخ المال السياسي... لهؤلاء المرشحين نقول لا تتعبوا أنفسكم برفع شعارات كبيرة، لأن أسيادكم في مجلس الأمن الذين صاغوا القرار 1559، وشنّوا حروبهم الإقليمية والدولية لنزع هذا السلاح، قد فشلوا في ذلك".
يستعرض الكاتب ما قاله النائب عز الدين -وهو موقف يتردّد دائمًا على ألسنة المعنيين في حزب الله- ليربطه بما جرى في الضاحية الجنوبية، سائلًا: هل استطاع "سلاح المقاومة" الذي يدافع نائب الحزب عن بقائه، توفير الأمن في "عاصمة" هذه المنظمة وهو الذي يتأهّب لإلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة و"إسرائيل" ومَن يلوذ بهما؟ وكأنّ الكاتب يغمز من قناة عجز حزب الله عن الضرب بيد من حديد في الضاحية. وهنا لا بد من "قلب المشهد" وسؤال الكاتب: ماذا لو نزِل حزب الله بسلاحه الذي يحمي لبنان من الاعتداءات "الإسرائيلية" والإرهابية للضرب بيد من حديد في الضاحية؟ هل كان الاعتقاد ذاته سيسود لديك ولدى أمثالك؟ أم لكانت قامت الدنيا ولم تقعد ولسادت عبارات "دويلة حزب الله" و"الأمن الذاتي"، و"حزب الله يحل مكان الدولة"، ولباتت الضاحية الجنوبية لبنانية وصار تدخل حزب الله الأمني فيها مستنكرًا؟. بطبيعة الحال، عدم تدخل حزب الله لا يعني عجزه. عندما يجب أن يكون الحزب سيكون، لكن بسط الأمن في الضاحية كأي منطقة من مسؤولية الدولة أولًا.
ويختم الكاتب مقاله سائلًا: هل صارت دولة لبنان مقدّم خدمات أمنية لدولة "حزب الله" كما هي "فاغنر" بوتين؟. ونحن نقول: "الدولة اللبنانية لا تقدّم خدمة أمنية عندما تحارب التفلت في الضاحية، بل تقّدم واجبًا لمنطقة لبنانية وأبنائها لبنانيون أبًا عن جد".
أمام هكذا نوع من الكتابات، تتبادر الى الذهن تلقائيًا قضيّة المهنية الإعلامية ونظرية المسؤولية الاجتماعية التي للأسف بات الالتزام بها نادرًا على حساب موجة "التنميط الإعلامي" أو "القولبة" التي باتت رائجة في سوق الممارسات الاعلامية لتشويه السمعة وقلب الحقائق في أذهان الرأي العام والجمهور المتلقي. وللأسف، في زمن الفوضى الإعلامية، بتنا أمام مقالات تُنسج من بنات أفكار كاتبيها وسط غياب أدنى معايير المنطق الإعلامي، ليؤلّف كل من يريد على هواه.
وعلى أي حال، فإنّ هذا المنطق في الكتابة ليس غريبًا على الصحيفة المذكورة التي تُمعن في الاستعلاء في مخاطبة فئة من اللبنانيين، وأرشيف "النهار" شاهد على العديد من المقالات التي تسود فيها نغمة التفرقة والتحريض وتحوير الوقائع وإشاعة التجزئة بين اللبنانيين والعزف المستمر على معزوفة حزب الله وإيران، رغم أننا اذا أردنا أن نبحث عن نفوذ الدول الخارجية، فبكل بساطة ووفقًا للمعايير الوطنية يمكن أن نطلق على "النهار" صحافة "المارينز" وليس صحافة لبنان.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024