معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

كيف يتضاءل هامش الحياد السلبي في الإقليم؟
28/01/2022

كيف يتضاءل هامش الحياد السلبي في الإقليم؟

إيهاب شوقي

على مدى عقود أدمنت بعض القوى السياسية والأنظمة العربية وغير العربية سياسة الحياد السلبي، وهي سياسة معاكسة لسياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز التي اتبعتها الدول المستقلة التي ساندت حركات التحرر الوطني.

وكانت سياسة الحياد الايجابي التي اتبعتها مصر والهند ويوغوسلافيا السابقة واندونيسيا في حركة عدم الانحياز في خمسينيات القرن المضي، قائمة على عدم التورط في الدخول في أحلاف عسكرية وإعلاء المصالح الوطنية للشعوب وعدم التبعية للقوى العظمى، مع استثناءات تتعلق بحركات التحرر الوطني، حيث لا حياد معها، بل هناك حتمية لمساندتها لنيل استقلالها.

بينما سياسة الحياد السلبي، والتي لم يعلن أحد بالطبع اتباعها، هي واقع حال الأنظمة التابعة الضعيفة، والتي تتبع احدى القوى العظمى دون أن تجرؤ على تحدي القوى العظمى المضادة، فتتبع سياسات بهلوانية انتهازية.

وربما كان تراجع الاتحاد السوفياتي السابق في سنواته الأخيرة إلى إعلان تفككه، وسطا ملائما لتنامي الظاهرة، حيث تجرأت أنظمة عديدة على الانقلاب على صداقة السوفيات واستبدالها بتبعية خالصة لأمريكا، ولكنها حافظت على هوامش للعلاقات وأسقف للسياسات لا يعد معها سلوكها مرادفا للتحدي يستوجب غضب السوفيات.

وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي والدخول لعالم أحادي القطب تعتلي عرشه الولايات المتحدة بلا منازع، أفصحت هذه الدول عن تبعيتها الصريحة ومارست أقبح السياسات التابعة، بما يتخطى أمنها القومي وجميع الأعراف والثوابت الوطنية.

وبعد بروز الصين كقوة اقتصادية تستعد لاعتلاء العرش الاقتصادي للعالم، وبروز روسيا كقوة عسكرية كبرى تتخطى القوة الأمريكية في العديد من مجالات السلاح، بدأت سياسة الحياد السلبي العودة مرة أخرى، وبدأ العديد من الأنظمة في التأرجح واللعب على جميع الحبال ومحاولة التوازن بين القوى.

ولكن ما هو الفارق بين الحياد الإيجابي والسلبي هنا، ما دامت القضية تتعلق بعدم الانحياز في الحالتين؟

ببساطة شديدة، يكمن الفارق في بواعث الحياد، فهل هو بغرض تجنيب الشعوب خطر معارك لا ناقة لها فيها ولا جمل والتفرغ للمعارك الوطنية المتسقة مع أولويات التنمية وحماية الاستقلال الوطني ودعم حركات التحرر الوطني وبالتالي يكون الحياد ايجابيا؟

أم هو هروب من استحقاقات التبعية والتي حتما ستطلب معها القوى الكبرى فواتير الغطاء السياسي ودعم الشرعية ونصرة الأنظمة على شعوبها، وبالتالي هو هروب يتظاهر بالحياد؟

في واقع الأمر هو محاولة للهروب وليست القضية تجنيب الشعوب ويلات الحرب، لأن أنظمة كهذه دخلت بالفعل في تحالفات عسكرية ضد بلدان تصورت أنها ضعيفة، ولم تناصر حركات التحرر الوطني بل كانت حربا عليها سواء على المستوى السياسي بمناهضتها وتشويهها أو الاقتصادي بالمشاركة في حصارها وتمويل خصومها، أو عسكريا إذا ما تمكنوا من ذلك.

تشهد أنظمة الحياد السلبي في منطقتنا اليوم أزمة كبيرة بسبب تنامي قوة روسيا والصين ومحور المقاومة، وتتعمق هذه الأزمة كلما تصاعدت نذر المواجهة واتجهت الأمور لاحتمالات الحرب، حيث ترى نفسها عاجزة بين طرفين قويين ومطالبة بدفع استحقاقات تبعيتها ولا ترى مجالا للفرار أو الحياد حيث لا تمتلك مقوماته لأنها لم تكن محايدة!

اليوم ومع نذر المواجهات الدولية بين روسيا من جهة والناتو وأمريكا من جهة أخرى، نجد الأنظمة العربية باستثناء سوريا المقاومة، في أزمة كبرى، حيث جبهات المعارك بين القوتين لو اندلعت الحرب، ستكون مفتوحة على مصاريعها، وستكون منطقتنا وتحديدا شرق المتوسط مسرحا لعمليات عسكرية كبرى وفقا لجميع مراكز الأبحاث الاستراتيجية الدولية.

والسبب في استثناء سوريا ومحور المقاومة من هذه الأزمة، هو أن المحور المقاوم قد التزم المبادئ بنصرة حركات التحرر والانحياز للقضايا العادلة، وقام بتمتين تحالفاته وتفرغ لبناء القوة والردع، مما يجعله طرفا وازنا في حال اندلاع الصراعات، بينما الأنظمة الأخرى أوقعت أنفسها في فخ تاريخي، حيث أصبحت عرضة للمساومات والتسويات بين الكبار من جهة، ولم تمتلك القوة ولا الأنصار من جهة أخرى، ناهيك عن اهتراء شعبيتها بسبب سياساتها التابعة المتناقضة مع مصالح الشعوب، وهو ما يجعلها عارية داخليا وخارجيا.

لا نستطيع الجزم بوصول الأمور لحرب حتمية، أم ستتم التسويات في الربع ساعة الأخير، ولكن في الحالتين، فإن مصائر هذه الأنظمة غامض ومتجه نحو كارثة كبيرة، حيث الحسم بالتسوية يقارب في نتائجه الحسم بالحرب، والمشترك بينهما هو عدم السماح بحالة الحياد السلبي التي ادمنت عليها هذه الأنظمة، فإما مع أمريكا أو ضدها، وإما مع الشرق أو ضده.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف