ابناؤك الاشداء

نقاط على الحروف

لا معجزات في طهران
28/01/2022

لا معجزات في طهران

القاهرة ـ أحمد فؤاد

تستمر عجلة التاريخ تدور وتدور، ومع دورانها السريع والمتلاحق، تمنحنا بعض الأنظمة والدول الدروس المجانية لمن قرر الانتباه والقراءة والفحص، البعض يسير بأقصى طاقته، وبما يتجاوز قدراته الذاتية حتى، نحو الهاوية، من مصر إلى المغرب والسعودية، رهن الجميع أوراق قوته في عهدة السيد الأميركي، ولجأ إلى حضن الصديق الصهيوني الدافئ، بحثًا عن دعم وعن شرعية، واتكل على ما تجود به الأيام من عطاياهما، هذا إن جاءت من الأساس.

خلال العام الجاري، 2022، أنظمة ثلاثة على موعد من الكارثة، التي بدأت في الانكشاف، فلم تعد مجهولًا على الإطلاق، الولايات المتحدة سقطت في خضم أزمة اقتصادية بفعل التضخم المنفلت وغير المسبوق، وسيد البيت الأبيض يبحث عن حلول في دفاتره، وأولها بالطبع سيكون حلب النظام السعودي، وبجانب ابن سلمان، سيتأتي على كل دول العالم النامية، والتي تربط عملاتها بالدولار أن تشارك في دفع التكاليف هي الأخرى، عقب أنباء عن اتجاه "الاحتياطي الفيدرالي" لرفع الفائدة 4 مرات خلال العام الجاري، وستكون تلك الطامة الكبرى للأوضاع الاقتصادية الهشة في عدد من الدول العربية، وأولها مصر والمغرب، والحبل على الجرار، وسيلفح الجميع بلهيبه.

وما تنتظره الدول العربية، الساقطة في فخ الديون الأجنبية الهائلة، والعاجزة كليًا عن إعادة بناء أو تعديل هياكلها الاقتصادية المريضة، ستكون ضربة رباعية من التضخم وتوقف تدفقات الأموال الساخنة والاضطرار إلى إجراء تخفيض معتبر في عملاتها المحلية، وأخيرًا فجوة أوسع من ذي قبل في الموازنات، وهي المختلة أصلًا، وهي أوضاع مأساوية خصوصًا بالنسبة للطبقات الأفقر، والتي تشرب دائمًا مرارة الخيارات الفاشلة والهوى الغربي لدى الطبقات العربية الحاكمة.

وعقب عامين على بداية تفشي جائحة كورونا، وجدت أغلب الدول العربية ذاتها تقف على حافة الهاوية، وكل حقائق القوة والموقع والتاريخ عبارة عن ركام لا يسند ولا يفيد، وكل ما تملكه بقايا أوهام وأجزاء من أحلام ناقصة، وظلال الخيبة تلف المشهد كله بضباب كثيف من الشك والخوف والحيرة القاتلة، وحكامها قبل مواطنوها لا ينتظرون سوى معجزة خارقة، علها تنقذهم من مصير محتوم.

الواقع العربي الأسود يتجاور مع إنجاز جديد، وفي طهران، التي خرقت هذا الحصار الخانق المضروب حول المنطقة العربية، وقبل كل شيء الحصار الأميركي المفروض عليها منذ انتصار الثورة الإسلامية في 1979، لتستكمل عامًا كاملًا من حصاد سياساتها وقرارها بالسير في طريق التنمية المستقلة القائمة والمعتمدة على جماهير شعبها، والمرتكزة على ثوابت وطنية أجادت فهم مخطط العدو الأميركي، ثم استوعبت الحصار وآثاره الهائلة، وأخيرًا استطاعت أن تقدم ـ لنفسها وغيرها- الدعم والسند وأيضًا الأمل.

بالتراكم أولًا ثم بالخبرات المكتسبة في مواجهة عواصف القرارات الأميركية ـ والدولية - الخرقاء، ثم التفاعل الخلّاق مع شعوب ودول تريد هي الأخرى طريقًا يخاصم التبعية لواشنطن، تمكنت الجمهورية الإسلامية من خوض وعبور أصعب معاركها وسنواتها، وبالحلف الجديد مع روسيا والصين، بدأ النور في نهاية طريقها النضالي يشع وهاجًا، في صورة فعل قادر على الحركة والتصرف، يقدم نفسه على قدمين ثابتتين، ويؤثر في مستقبل المنطقة، عوضًا عن أن يكون مستقبلًا سلبيًا لقرارات القوى الكبرى المتحكمة.

وباعتبار السياسة الإيرانية، ومنذ انتصار الثورة الإسلامية، اعتمدت على ثوابت إيمانية من فكر الإمام القائد الخميني (قده) في ظل خوضها تغيرات عنيفة تجري بالبلد كلها في موج كالجبال، أعادت تشكيل العلاقات الدولية عند القمة، فإنها أدركت أن السياسة الناجحة والشرعية، في آن، هي القدرة على تعبئة وتوجيه إرادة الجماهير الثائرة نحو الاستفادة القصوى من إمكانيات المجتمع وقدراته، وثراء الموقع وحيويته، وكفاءة استغلال الموارد الحضارية والطاقات الإنسانية في الأمة، بهدف تحقيق طموحات الشعب حاضرًا ومستقبلًا.

لا معجزات في طهران

في إطار هذه السياسة الثابتة، رغم العواصف التي تثيرها الولايات المتحدة في مفاوضات جنيف أو بأحاديث عدم رفع العقوبات عن طهران، جاء التصريح الكاشف من أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، عن دخول اتفاقية التعاون الإستراتيجي بين إيران والصين حيز التنفيذ، وهي الاتفاقية التي تقرر أن تكون مدتها 25 عامًا، في رسالة على عمق روابط التعاون بعيد المدى بين طهران وبكين، ثم جاء إطلاق مناورات "الحزام والطريق البحري 2022"، والتي شاركت فيها إيران والصين وروسيا تأكيدًا للعلاقات الجديدة بينهما.

التصريحات الإيرانية والصينية، والتي جاءت عقب إعلان دخول الاتفاق الإستراتيجي، والذي وقع العام الماضي حيز التنفيذ، خلال زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان إلى بكين، تشير كلها إلى نوع جديد من التحالفات على قاعدة رابح - رابح، ورسم السياسات بما تقتضيه مصلحة الشعوب أولًا، وهو نقيض أية اتفاقية توقعها الولايات المتحدة مع أي نظام في العالم العربي.

والأهم من تصريحات الود والمجاملات الدبلوماسية، خلال الزيارة، هي تصريحات الوزير الإيراني عن فتح طهران الباب للتعاون مع كل دول الجوار، رغبة في استغلال مكانة إيران الجيوسياسية لتكون جسرًا لإقامة العلاقات الودية وتنميتها مع الجوار، دون تدخل أطراف خارجية، وهي دعوة كريمة بمثابة يد ممدودة نحو استشراف أفاق المستقبل من البوابة الشرقية للعالم العربي، وفتحها على العالم الجديد الذي يتشكل في شرق آسيا، وقبل كل شيء مع دول في وسط آسيا تشدنا إليها رابطة الإسلام، وبشكل عام، فإن التواجد العربي في آسيا سيكون حجزًا لمكان أكيد في مستقبل يتشكل.

خلال العام الماضي، وعقب توقيع الاتفاق الإستراتيجي بين بكين وطهران، أصدر البنك الدولي تقريره، والذي جاء بعنوان "التحديث الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 2021"، ليعدل توقعاته لنمو الاقتصاد الإيراني، وقال التقرير نصًا: "الاقتصاد الإيراني سيحقق معدلات نمو تبلغ 2.1% في 2021، ثم 2.2% في 2022، بالتزامن مع انتهاء آثار الوباء السلبية على الموازنة والمالية العامة تمامًا"، كما توقع عودة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للنمو الإيجابي بداية من عام 2021، ليكون أفضل رصد لأداء الاقتصاد الذي كسر العقوبات، وتمكن من عبور عقبة تفشي فيروس كورونا في فترة قياسية.

هل ما تحقق خلال العام الماضي يستحق وصف معجزة، بكل ما يحمله المعنى من خرق للمعتاد بما يفوق الإمكانات المادية، وحتى عوامل القوة المتاحة، ويتجاوز معادلات المنطقة وموقع طهران فيها، ثم الرغبة الأميركية المحمومة في حسم الملفات وإغلاق بؤر المتاعب والصراعات، مع انتقال اهتمام الكاوبوي إلى معركته الكبرى مع التنين الصيني المرعب.

بالقطع فإن الزمن الحالي ليس زمان معجزات، ولا هي أيام تقبل الخلط بين إجادة رسم السياسة وحسن تنفيذها ودقة متابعتها وتصويبها إن لزم الأمر، وبين خوارق الأفعال والنتائج، بل هي قدرة طرف فاعل متيقظ على متابعة طريقه المخطط، وتجاوز العقبات وصولًا للإفادة من الظروف الطارئة، والتي تمنح الدفعة المناسبة للأوفر استعدادًا والأكثر تهيؤاً لاستغلالها.

قد يكون ما حدث في إيران ليس معجزة بالضبط، وإنما تلك الخلطة الروحية القادرة بين الإيمان حين يصدق والإرادة حين تتيقظ باحثة عن حلمها وتصمم عليه، وكلاهما الإيمان والإرادة خارجان عن حدود المعقول والمألوف، خصوصًا في حال أمة تملك تجربة طويلة ومتصلة في صنع التاريخ.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف