نقاط على الحروف
لغةٌ بلا مفعول
لطيفة الحسيني
مشكلتي مع المفعول به تتفاقم. منذ أن أستقلّ سيارتي مُيمّمةً وجهي نحو مكتب التحرير حتى ختام يوم العمل المُتمدِّد. ماذا أصابَ العرب؟ "الفوز" بمقالٍ لم يرفع المفعول به أضحى طموحًا غالبًا. دعكم من أهل الصحافة ومن دخلها زورًا. حاولوا أن تجولوا على لافتات الإعلانات على الطرقات، على الحافلات، في المستشفيات، في المحال التجارية، في الدوائر الرسمية، غوصوا في منشورات مواقع التواصل الاجتماعي وصولًا الى حالات الـ"واتسآب"، ستجدون حُكمًا مصائب كانت ستقتل أبا الأسود الدؤلي، أوّل واضع لعلم النحو في اللغة العربية.
المُشترك الأعمّ بين كلّ النوائب: المفعول به. الكلّ يريد الفُصحى ولا يُتقن النصب مع أنه ينصب وينسخ ويُلصِق الحِكم والصباحات والاقتباسات الأخّاذة. يرفضون العامية واللهجات المحكية، ويتسابقون نحو "الفصاحة القاتلة". هل حقًا تدرون ماذا تفعلون؟
عند البحث عن أسباب ضعف مستوى اللغة العربية لدى أهل الإعلام أولًا والجمهور ثانيًا تَضلّ الإجابة طريقها. هل المشكلة في عدم إيلاء الدولة لغة الضادِ أهمية قصوى في مناهجها التربوية؟ أم أن لهو الناس بأساليب السذاجة اليومية صار همّهم الأوحد؟ أو ربّما تقاعسهم عن التزوّد بعلم البلاغة ومُلازمتهم لكلّ ما هو سهل وركيك قد يكون أصل هذه العلّة!
أتذّكر كيف شكا بغضبٍ الدكتور الراحل سماح إدريس من هؤلاء. لطالما تحدّث عمّن يضرب اللغة بـ"ذنوبه" هذه. هل من الممكن اليوم أن يسأل محرّر وصحافي أو طالب "ماجستير" أو حائز على شهادة "الدكتوراه" أو بروفيسور في اختصاصات "السند والهند" عن علامة نصب المفعول به في حالتي المفرد والجمع؟ عن صحّة تنوين النصب لجمع المؤنث السالم؟ عن حذف حرف العلّة من الاسم النكرة؟ أو كيف يُرفع المبتدأ المثنى؟ هل هناك عاقل يُصدّق أن من بين هذا الحشد العلمي من لا يميّز بين الاسم والفعل ليضع ألف الجمع في آخره! أمّا علاماتُ الجزم والأمر فانضمّت الى الضمائر المستترة عمدًا، لا استخدام لها. لا شيء سوى غفلة تامّة عن قواعد ترسم جمالية اللغة وصوابيّتها.
يتربّع هؤلاء "المبدعون" في صدارة "القوم". أجيالٌ تتأثّر بهم. المُدهش في الحكاية حين يُسارعون الى التسلّح بعبارة لا تدعو سوى للسخرية: نكتبُ على السمع! نشعر أنها صحيحة فنمشي بها! هل من داعٍ مرة أخرى للتنقيب عن أصل كوارث اللغة إذًا؟
بعيدًا عن الإعراب. ماذا عن الجُمل المفيدة؟ المعاني الواضحة؟ الصياغة السليمة؟ العناوين الجليّة؟ من يقرأ ويواكب واقع الصحافة اليوم محليًا وإقليميًا يكتشف الخطْب العظيم. أين الفكرة؟ أين المنطق؟ تبدأ الجملة فتكون الأحجية في العثور على نهايتها! ما الهدف من المقطع الحاضر أمامنا؟ غاية المقال؟ تظنّ لوهلة أنك في غابة بلا شجر! صحراء بلا رمال! لا تفهم ماذا يجري!
من قال إن سلامة اللغة تحتاج الى شهادة في الأدب العربي؟ إبقاء لغة "الضاد" بمنأى عن المجازر والإساءات يوجب التنبّه لتبيان معانيها وصحّة إعرابها بسهولةٍ ويُسرٍ من دون مبالغة وإطناب. إنقاذ عباراتنا مسؤولية، عهدٌ علينا حتى لا تنحدر "عروبتنا"، ولا سيّما في ظلّ تضخّم أعداد خرّيجي الصحافة.
في يوم اللغة العربية، ليس المطلوب من أهل الإعلام استنساخ تجربة محمد حسنين هيكل، لكن حُكمًا ليس الاستحالة الى منصور عبد المعطي في مدرسة المشاغبين! بتنا جميعًا مرسي الزناتي نصرخ وإيّاه: "أنا عاوز جملة مفيدة!".
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024