نقاط على الحروف
عن أستاذ المجاهدين: ثورة كربلائية حيّة
لطيفة الحسيني
رساليًّا مُحمّديًّا عرفوه، مُربّيًا ذائبًا في الإسلام بانَ. طُلابُّه الذين خبِروه يرونه وَحْيًا ينهلون من إرثه على طول الأيّام. أطلق "يا قدس إنا قادمون" و"هوى" في حبّ فلسطين حتى "لا تحزن". الشباب المؤمن كان همّه، وبقاءُ الدين مُبتغًى لم يحِدْ عنه.
محمد بجيجي أستاذ المقاومة والمجاهدين في بدايات الكفاح وانطلاقة النزال مع العدو. سيرةٌ تَفيض بالفكر والعلم والنضال. رحلةُ الإبحار إليها مَديدة. عمرٌ في الإخلاص والأمانة والقيادة. تاريخُ أبي حسن في التأسيس والتحفيز "مُثقل" بالإنجازات والغلبة. من مشغرة الى بعلبك ثمّ بيروت وبعدها عودة الى البقاع، محطاتٌ تَحفظ حقّ الأوائل من "جيل الثمانينيات".
في سنة النكبة، وُلد محمد بجيجي في مشغرة. تفوّق علميًا فانصرف الى التدريس إثر التحاقه بدار المعلّمين، وبعدها بكلية العلوم في الجامعة اللبنانية حيث نال الماجستير، ثم تخصّص تاليًا في العلوم السياسية.
منتصف السبعينيات التعبئة النفسية. انكبّ أبو حسن بجيجي على "الارتشاف" من فكر آية الله السيد محمد حسين فضل الله في الشياح. واظب على محاضراته مع "الرفاق" في عزّ نشاط حركة المحرومين، ولا سيّما مع الحاج محمد فنيش (النائب والوزير السابق) والسيد فيصل أمين السيد، حتى أسّسوا معًا مكتبة الشهيد مرتضى مطهري. السعي نحو طريق الحقّ استمرّ. عمل مع "الإخوة" على تجهيز أعمال المقاومة وتسليح الفلسطينيين على أيّام منظمة التحرير، وانضوى تحت لواء حركة "فتح". قاعدةٌ بنى عليها لإنشاء فصائل مقاومة في البقاع الغربي بموازاة تأسيس نواة العمل الإسلامي في المنطقة. جُهده المبذول حينها أفضى الى "ولادة" النادي الإسلامي الحرّ العاملي وتكوين خلايا إسلامية في أواخر السبعينيات وإنشاء ملعب رياضي بمساهمات فردية، وهو الذي بات يُعرف اليوم بمدينة الحاج رضوان الشبابية في مشغرة.
قُبيل اختطافه في ليبيا، زار الإمام السيد موسى الصدر البقاع الغربي، تحديدًا نبع التنور. هناك استقبله أبو حسن خطيبًا لبِقًا، فبَرز بين الأعيان مُرتجلًا ولامعًا. صورة عكست الجانب الفذّ في شخصيّته.
الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 محطّةٌ مفصلية في مسيرة جهاد أبي حسن. قرّر القائد الكبير الانخراط أكثر في مواجهة مع العدو. انتقل الى النبي شيت بعد احتلال البقاع الغربي الذي وصل الى بلدة غزة والقرعون. في تلك المرحلة، التحق بالحرس الثوري الإيراني الذي قدم الى لبنان دعمًا لمجموعات المقاومة الأولى وتدريبها عسكريًا في جنتا البقاعية. آنذاك "تشارك" والسيد عباس الموسوي والسيد حسن نصر الله التمرينات المُكثّفة.
بعد الدورة الأولى للحرس، اختير أبو حسن مع جمْعٍ من الإخوة للسفر الى إيران، حيث استكمل هناك دورات مُعمّقة وأصبح مُتخصّصًا بالعقيدة والسياسة. تحصيلٌ جديدٌ في سيرته استدعى تسليمه الملفّ الثقافي في مسجدي النبي شيت (التي تحوّلت الى مقرّه السكني) وبعلبك وجنتا وسرعين والخضر ويحفوفا والخريبة وعلي النهري ورياق وتمنين. بقعةٌ جغرافية حرص فيها على إقامة الدروس الدينية، وتابع حضورًا وقراءةً دعاءي التوسل وكميل أسبوعيًا.
في هذه الأثناء، كانت الأحداث تتوالى. المُقاومون يُقارعون العدو في أكثر من نقطة وجبهة. أبو حسن والسيد عباس الموسوي يُشرفان على معظم العمليات. تحرّرت مشغرة من الاحتلال عام 1985. عاد بجيجي الى مسقط رأسه. غدا المسؤول العسكري الأول في البقاع الغربي. أسّس مجموعات مقاومة على الأرض مع الشهداء نصار نصار ورضا الشاعر وأبو علي مرعي وحسن هاشم وآخرين. تفرّغ أكثر لإعطاء الدروس الثقافية للمُجاهدين قبيل تنفيذهم عملياتهم. هؤلاء كانوا يتوجهون سرًا من النبي شيت الى مشغرة عبر الجبال لتلبية نداء الواجب. لأبي حسن جملةٌ شهيرة يُخاطب فيها تلك المجموعات فيقول "جهّزوا الإخوة ودرّبوهم لكي يكونوا أرقامًا بمواجهة العدو".
حدّد القائد الكبير عناوين المرحلة: مواجهة خطة العملاء في البقاع الغربي القاضية بترحيل الشباب من مشغرة. ليس هذا فحسب. بالنسبة له، الوضع صعب والصراع طويل، المسألة أكبر من البقاع الغربي وفلسطين، أن يبقى الإسلام ويحكم العالم أو لا يبقى لنا دين، فبالجهاد يستمرّ الإسلام، والقضاء على "اسرائيل" تكليف شرعي، كما قال.
عام 1988، دخل الصهاينة الى ميدون. رغم حجم الطيران، استبسل المجاهدون بوجه الصهاينة. كان أبو حسن يحضر نشاطات الإخوان في الجبور وأبو راشد وجبل تومات نيحا والنقاط العسكرية. قاد ملحمة ميدون البطولية التي ارتقى فيها 18 قمرًا من أقمار المقاومة وتراجع الاسرائيليون خائبين دون تحقيق أيّ تقدّم. شارك في عملية لوسي النوعية على محور السريرة التي نتج عنها غنم ملالة للعملاء ونسف جسر الدلافة الاستراتيجي. وله دورٌ رئيس في عملية اقتحام موقع عين الخوخ، وكمائن عدّة في تلال الجبور وتلال الديدبة.
كثيرًا ما عبّر أبو حسن عن حلمه: الموت شهيدًا وليس على فراش. لأجل ذلك، بدا توّاقًا لملاقاة الاسرائيلي وكسره وجهًا لوجه. طموحٌ شكّل له "فرصة العمر" المنتظرة، وهو ما ظهر لاحقًا في وصيّته "العرفانية" حين قال اعتقادي الراسخ بأهمية قطرات دماء الشهداء جعلني أُفتّش عن الموت على طريقة أبي عبد الله الحسين (ع).
دنت الساعة. نجمُ مشغرة يقترب من الأفول. 13 تموز 1988. استعدّ أبو حسن للمعركة الآتية. علم أن الصهاينة قرب تلّة الديدبة في أحراج زلايا، فاستبشر خيرًا، انطلق بسرعة مع مجموعة مجاهدين. توضّأ وصلّى ودعا دعاء الإمام زين العابدين(ع) راجيًا في نهايته الشهادة. بدأت خطّة الهجوم، تقدّمٌ للمقاومين على عدّة محاور باتجاه الصهاينة. دارت اشتباكات عنيفة بين الجانبيْن، ثمّ باغتت مجموعة القائد القوة المعادية مُحقّقة إصابات بليغة في صفوفها. تابع أبو حسن مسيره راميًا قنابله الثلاثة ومُفرغًا مخازنه أيضًا، وبينما كان يُطلق عدّة طلقات أُصيب برأسه فقضى شهيدًا على الفور، مثلما تمنّى تمامًا، تاركًا قلوب المؤمنين في علّة.
الفقدُ جسيم. الرفاق مفجوعون بخسارته جسدًا، لكن آثاره مواساة. ترِكته سلوان. لا هزيمة بل فوز بجنان الله كما أراد وعمل. في بداية التسعينيات، تحدّث الأمين العام لحزب الله عن حيثيّته في أحد اللقاءات في منطقة بيروت الغربية، فقال للحاضرين "من أين نأتي بشخصية كشخصية محمد بجيجي الذي يمتلك كلّ الصفات العسكرية والجهادية والاجتماعية؟". كلامٌ لا يشير سوى الى تميّزه في المسيرة.
سماحته يسترسل في لقاءٍ آخر في وصف "الركن الكبير": كان أستاذًا مُعلّمًا يقف أمام طلابه بأمانة ومسؤولية.. استطاع أن يكون قائدًا في العمل التربوي وفي كسر حواجز الخوف ورفع المعنويات، واستنهاض هِمم الناس وبعث الأمل في قلوبهم والنفوس وصولًا الى مرحلة المُجاهد الذي يحضر في الصفوف الأمامية ويُلبّي نداء الواجب في الدفاع عن أهله وشعبه دون أيّ تردّد.
من أشهر خطابات القائد الشهيد أبو حسن بجيجي:
لا تحزني فلسطين أبدًا،
يا ثانيَ الحرميْن،
يا قبلة المسلمين الأولى،
إننا قادمون مع الدماء،
من خلال كربلاء ميدون قادمون،
من خلال تلال الجبور قادمون،
عبر سجد قادمون،
عبر الأحمدية قادمون،
مع الشيخ حيدر ونوح قادمون،
عبر ميدون مع الشيخ محمد مع الأمير مع علي العنقوني قادمون،
مع 17 شهيدًا وأبو يحيى.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024