نقاط على الحروف
"نقاتلكم بإيماننا".. صيحةُ بطل استثنائي
حسين خازم
تعددت أوجه الشبه بين شهداء الزمن الأول، وصلت حد تشابه الوجوه والأصوات وحتى الظروف، في الوقت الذي كان الإسلام فيه غريبًا --وما زال- في بقعة جغرافيّة لم تعرف السلام يومًا، لبنان.
ولعل هؤلاء المضحين منذ أول تكبيرة كانوا علامةً فارقة في رسم المشهد الأول الذي أذهل العالم، بدءًا من صد الزحف الصهيوني القادم من صوب الجنوب، وصولًا إلى إسقاط أوراق التوت التي غطّت عورات الكثير من مدعي الوطنية والقيم، وإسقاط تسوياتهم المذلّة واتفاقاتهم المشينة، ومرورًا بالرباط والقتال على أرض الجنوب الأسير الذي لم يكن في بال أحد آنذاك أنه سيتحرر يومًا ما إلا في بال فئة مؤمنة بايعت إمامها الخميني (س) بصدق، ومن وجوهها اسمٌ فريد، ينتسبُ إلى جمال الجنوب الذي لم يكن لطيفًا على المحتل، "الدحنون الأكبر"، محمد حجازي.
من بلدة محيبيب الجنوبية، المعروفة اليوم بمقام أخ نبي الله يوسف(س)، بنيامين، كان نسبُ "محمد"، المولود عام 1964 لعائلة كادحة كغيرها من عوائل المسلمين الشيعة.
ذلك الجيل، نما عمليًا في مرحلة المخاض التي شهدها العالم العربي والعالم الإسلامي، حيثُ شهد محمد الطفل نكسة 1967 وحرب 1973، كل ذلك كان يصنع في أذهان العرب والمسلمين أن "إسرائيل" قوةٌ لا تُقهر، وأن جيوش العرب المسلحة بالطائرات والدبابات لن تصنع معها شيئًا ولن تغير في الواقع العربي المنهزم إلا سلبًا وقتلًا وتشريدًا.
وشهدَ محمد زحف الأعراب للاستسلام أمام الجبروت الاسرائيلي في "كامب دايفيد". كان المشهدُ الذي يلوح بالأفق يوحي بالانكسار، لولا يد الخميني التي ارتفعت فأشرقت في قلوب المستضعفين والمسلمين شمسًا تضيء بقية الأحلام التي انحسرت فجأةً مع نسيم الرضوخ العربي. كان محمد أحد هؤلاء الذين رأوا في إمام الأمّة أملًا وحلمًا، ولعل التصوير الأقرب للحقيقة في العلاقة مع الإمام(س) هو ذاك الذي قاله سيد شهداء المقاومة الاسلامية الشهيد السيد عباس الموسوي(س): "كنا نرى الدنيا من خلال عينيك".
تأثر محمد حجازي بالحالة الإسلامية تلك، فلازمَ المرحوم آية الله السيد محمد حسين فضل الله مع المجموعة المؤمنة التي لازمت السيد في تلك الفترة. ويُروى أن السيد فضل الله حفّز محمد وأقرانه على التحصيل العلمي ونيل شهادة "البكالوريا" وشدد على محمد بذلك الأمر. وكان مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد لمحمد كما كان للكثير من الشباب المؤمن معقلًا وقلعةً من قلاع الإسلام في تلك المرحلة، فتعرف على الشبان المؤمنين الذين بدأوا بتشكيل قوّة إسلامية لم تكتفِ بالجلوس في زاوية المسجد: "ثلاثي حدرج"، أحمد مهدي، أبو علي شهلا، علي وصالح حرب، وأسماءٌ كثيرة من الذين رابطوا دفاعًا عن عزة الإسلام بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
شارك محمد في التصدي للاجتياح الإسرائيلي، وفي عدة أماكن، شأنه شأن "الإسلاميين الجدد" الذين خاضوا الملاحم البطولية في خلدة وكلية العلوم وأحياء الضاحية الجنوبية، مانعين بذلك استقرار القوات الصهيونية الغازية في الضاحية الجنوبية، والذين غابوا في تلك الفترة عن بيوتهم لأيام وأسابيع.
ومدافعًا عن الضاحية الجنوبية وكرامة الإسلام، قاتل محمد العصابات الانعزالية، التي كانت مصرّةً على الاستسلام لـ"إسرائيل" باتفاقية 17 أيّار 1983 في الوقت الذي كانت تدك فيه الضاحية الجنوبية بالحِمم القاتلة. وقادَ محمد الملحمة البطولية في ما عُرف بـ "محور الـ 71" قرب كنيسة مار مخايل. يوم الخميس 2 شباط 1984، استخار محمد ربّه فأتاه الجواب سريعًا بالقبول "أُذنَ للذين يقاتلون بأنهم ظلموا". وقف محمدُ وبندقيته إلى جانبه منذرًا العصابات قبل أن يأتي من يرتضونه عدوًا.
"نحن لا نُقاتل بسلاحنا، إننا نقاتل بقوّة إيماننا وعزيمة إيماننا، إن السّلاح الذي بين أيدينا ما هو إلَّا وسيلة لا شيء، إنما الإيمان هو القوة وهو الذي ينصرنا عليكم". كلماتٌ لم يقلها محمد حجازي على منبرٍ تحت قبّةٍ محميّة من الرصاص، بل على المحور وأمام العدو الذي جبُن عن القتال. مشاهد وثّقتها أول كاميرا للعمل الإسلامي في لبنان، قيلَ إنها كانت الوحيدة، ثم ظهرت لاحقًا بعد استشهاد محمّد في أول فيلم وثائقي إسلامي بعنوان "قيام المستضعفين" من إنتاج "اللجنة الفنية للإعلام الإسلامي".
وبين جبهات الضاحية وتأمين نقل السلاح إلى جبهات الجنوب، قضى محمّد آخر سنتين من عمره، حتى نال المرتجى يوم الرابع من تموز عام 1984، الموافق 3 شوال 1404، وشُيِّع براية الإسلام إلى روضة الشهيدين في مسيرة تشييع حاشدة، تقدّمها شعارٌ بالأحمر على خلفيةٍ زرقاء، لم يكن مألوفًا حينها سوى بالاسم، إلى أن أشرقت شمس 16 شباط 1985، معلنةً هوية القوّة الإسلامية تلك، "حزبُ الله".
لم تنتهِ رواية محمد بعد شهادته، فللدحنون الأكبر أخٌ عُرف بعد شهادة محمد بـ "الدحنون الأصغر"، أحمد عبد حجازي، الذي شارك محمد جهاده حيًا، وحمل بندقيته ورايته بعده شهيدًا، ومضى أحمد جنوبًا يصنع الملاحم مع إخوانه المجاهدين حتى استُشهد بعد أخيه بسنةٍ وخمسة أشهر في مواجهةٍ بطولية ببلدة كفرا، استشهد معه فيها المجاهد محمد يوسف، المعروف باسم "المفتي"، أحدُ الأبطال العشرة من رحم الأوزاعي المحرومة.
وبعد سنواتٍ طوال، وفي المعركة مع الإرهاب التكفيري، المدعوم من أمريكا وإسرائيل وأعوانهما في المنطقة، قضى أخٌ لمحمد وأحمد شهيدًا مظلومًا بتفجيرٍ إرهابي في حارة حريك، عاشَ بعده "رضا حجازي" موتًا سريريًا لمدة خمس سنوات قبل أن يلتقي أخويه عام 2019، ليكون الشهيد الثالث في بيتٍ مجاهد من البيوت الأولى، التي أذن الله أن يُرفع اسمه فيها، وأن تُرفع الأمة برفع اسم الله من قعر الهزيمة والخضوع.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024