نقاط على الحروف
التحرير الثاني: انتهت المعركة ولم ينته الحبّ
ليلى عماشا
لم ينته الحديث يومًا عن حكاية المعارك التي تُوّجت بالتحرير الثاني. جميع التفاصيل التي تمّ تداولها، كلّ الأخبار التي تناولها الإعلام والوكالات الإخبارية ومنصّات التواصل، بل وكلّ المشاهد الناطقة التي خاطبت القلوب في سلسلة "أسرار التحرير الثاني" وتلقّتها العقول بذهول واهتمام، كلّ هذا لا يرسم المشهد واضحًا بما يكفي ليتمكن المرء من التعامل معه كمشهد يمكن تجاوزه بعد تحصيل كلّ تفاصيله والإحاطة بكلّ جوانبه، فلا تفاصيله تنتهي ولا جوانبه يحدّها وقت أو توثيق. تناول الكثيرون حكاية التحرير الثاني بتفاصيلها المختلفة، ولا يتسع المجال للخوض في جوانب ودلالات ومجريات المعركة، والتي تمّ أصلًا تداولها وتحليلها عشرات المرّات، وقد استحالت مدرسة في الحرب وفي الحب، إلّا أنّ الجانب العاطفي في تلك الحكاية هو التراب الذي في كنفه نما التقدّم العسكري والنّصر المشهود. ولذلك، لا يمكن أن يمرّ يوم عيد التحرير الثاني دون أن يستعيد المرء كل ما حصل، وتسري الحكاية في دمنا كالعشق، كنار الفقد، وكالعزّ الوفير. هي ذاكرة من لون الذاكرات التي لا تغيب كي تحضر. لكنّها في عيدها تبدو كأنّها بدر عشقي اكتمل في سماء القلوب.
ولذلك، اليوم تنطق العاطفة. تأخذنا برهة من يوميات القهر المعيشي إلى أصواتهم وهي تركض بين الطلقات أبيّة حرّة، إلى قائد ميداني يقول في ساحة الاشتباك لأبنائه "انتبهوا تقبروني..." فيغمرهم ويغمرنا بل ويغمر عالمنا بحبّ يستحضر كلّ حكايا الشهداء. إلى لهجاتهم المجبولة بتراب القرى التي لا تجيد إلّا العشق والحياء. يأخذنا إلى حيث ترتمي أرواحنا حيث مرّوا، فنراهم وردًا في أرض الجرود الباردة وعشبًا يخفّف من حدّة اسمنت المدن. إلى يقينهم الساطع كالشمس التي كوت جباههم واتكأت على زنودهم آمنة. نذهب اليوم بكلّنا كي نرتمي عند أقدام آباء وأمهات الرجال الذين أزيح اللثام عن وجوههم إذ صاروا شهداء، ثمّ نلوذ بنبرة من لم تزل وجوههم خفيّة، الذين عادوا كي يجهزوا للمعركة القادمة.
"التحرير الثاني" معركة ساهمت في حسم مصير المنطقة كلّها، وبعض أسراره التي ظهرت في السلسلة الوثائقية أسرت قلوب كلّ من شاهدها. وهنا يصبح السؤال الذي يمرّ في القلب ملحًّا: إن كان حالنا نحن المشاهدين، متابعي المعركة بعد انتهائها نصرًا، على هذا القدر من العشق، فما حال مَن ذهب إلى هناك، أو من شمَّ عطر الذين ذهبوا؟ ما حال الأمهات اللواتي رفعن في هذه المعركة قلوبهن كفوفًا تحمد الله وتنبض بأن "يَبْني" بيّضتَ وجهي عند الزهراء"، والآباء الذين بذلوا في الحب حبّات عيونهم وكلّهم خجل وعزّ؟ أوَنعلم شيئًا عن العزّ المخضّب بالفقد؟! أندري من أيّ جرح تنمو ورود النّصر والمجد؟!
اليوم، سيتحدّث فينا جميعًا سيّد النّصر وكلّ نصر بمناسبة ذكرى التحرير الثاني. وكما نصغي إليه بكلّ ما فينا من يقين، سيمكن أن نلمح في سماء صوته كلّ ما حوت المعركة وكلّ ما تلاها. سنرى بين الكلمات أسماء الشهداء ووجوههم، وكلّ ما في وجوههم من فيوض العشق وتفاصيل المعركة التي لا تقال.
واليوم، ينطق الدّمع المخفيّ في عيون الذاكرة، يحدّث عن خجلنا المتعاظم نصرًا بعد نصر، عن الدَّين الذي تحمله أعناقنا وتعرف أنّها لن تستطيع أن تفيه يومًا، عن الحبّ الذي يشرب من غبار السواتر كي تبقى قلوبنا على قيد الحياة، وعن شهداء انسكبت ضحكاتهم في أيّامنا وزيّنتها بالحياء وبالحياة.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024