نقاط على الحروف
"اسرائيل" ومعادلة "الهروب الرشيق".. من لبنان إلى غزة
ايهاب زكي
في 14 آب/أغسطس 2019، وتزامنًا مع ذكرى انتهاء العدوان على لبنان ووقف اطلاق النار، قال المؤرخ الصهيوني ورئيس مركز دايان لدراسات الشرق الأوسط إيال زيسر إن "نصر الله أجبر حكومتنا على أن تجثو على ركبتيها عام 2006، ومنذ ذلك الحين لم تجرؤ على أن تطلق طلقة واحدة تجاه لبنان". وهذا التصور ليس بعيداً عن ذهن صُنّاع القرار"الإسرائيلي"، فإن كان زيسر توصل للأمر استنتاجاً، فإنّ صُناع القرار يعايشونه عملياً، والنتائج الحتمية لهذا التصور هي العجز المطبق، وتجنب أيّ عملٍ مقصود أو خطأ غير مقصود، قد يؤدي لاندلاع اشتباك متدحرج مع حزب الله، ولكن في مطلع هذا الشهر حاولت حكومة العدو الجديدة اختبار الخروج من مرحلة الجثو المزمن، فأغارت على جنوب لبنان جواً وعبر سلاح الطيران، وبعد ردّ حزب الله الصارم على تلك المحاولات، عادت حكومة العدو لمربع الجثو. ولكن في كيان العدو هناك من حاول طرح ما يشبه إعادة صياغة لطريقة الخروج من ذلك المربع المذل، وذلك عن طريق إيجاد بدائل تشبه أكياس الرمل.
في تحليلٍ صادرٍ عن مركز بيغين - السادات، بقلم دورون ميتسا الذي تولى عدة مناصب في أجهزة الاستخبارات "الإسرائيلية"، يقول ميتسا إن "العنوان الحقيقي لمعالجة ما يجري هو تحديداً حركة "حماس" في قطاع غزة، بواسطتها يمكن شدّ خيوط الدمية وأذرعها الموجودة في لبنان. من هذه الناحية تحتاج "اسرائيل" إلى وضع معادلة جديدة، مفادها أنّ عدم الهدوء في الشمال، سيُردّ عليه بعدم هدوءٍ في غزة. هنا يكمن المركز العصبي السياسي والاجتماعي والتنفيذي لحركة "حماس"". هذا كلام قابل للبناء عليه واعتباره شبه رسمي، بعكس ما قالته مثلاً بالينا شوكر، أستاذة الاستراتيجيا والأمن القومي في صحيفة "يسرائيل هيوم"، حيث استنتجت أنه "في ظل الأزمة الاقتصادية في لبنان، وتراجع شعبية حزب الله وتعاظم المعارضة له، وعدم رغبة إيران في التصعيد، يجب على "إسرائيل" توجيه ضربة أكبر للرصيد الاستراتيجي للحزب". وهذا الاستنتاج لا يصلح حتى للتفنيد، وهو فقط يصلح لتأهيلها للعمل في وسيلة إعلام نفطية، كمحللة استراتيجية فذّة.
ولكن بالعودة لمعادلة مركز بيغين - السادات، بالإمكان ملاحظة عدة إشكاليات، فقد جزم أنّ الصواريخ التي انطلقت من جنوب لبنان -باستثناء الصواريخ التي أعلن عنها حزب الله- هي صواريخ فلسطينية-حمساوية، كما جزم بأنّها سلوكيات تشبه سلوكيات منظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات، وجزم بأنّ هذا بسبب غياب الدولة كما كان سابقاً، وقد اعتبر أنّ الردّ "الإسرائيلي" على تلك الصواريخ صحيح، لكنه في المكان الخطأ،. وهذه إشكاليات تصيب البحث بالعوار الشديد، فالتشبيه بالستينيات والسبعينيات شديد التهافت، وردّ الأمر لغياب الدولة أشدّ تهافتاً، فالجنوب ليس ساحةً مستباحة حتى بافتراض غياب الدولة، رغم أنّها حاضرة ومتمثلة بانتشار الجيش اللبناني، لذلك يمكن الاستنتاج أنّ مركز بيغين-السادات، تجنب أنّ يضع حيثية العجز الإسرائيلي كمنطلقٍ لتفعيل معادلةٍ بديلة، فلجأ إلى وضع حيثيات إشكالية لا تتسق مع الواقع الفعلي، ولكنها تبدو في إطار بحثي يلتحف الرصانة. تفنيد الحيثيات ليس موضوعنا، بل معنى إقدام "إسرائيل" على اعتماد هذه المعادلة، حيث تبدو مرادفاً لمعنى الهروب الرشيق، وتريد إغلاق باب مجرد التفكير بعدوانٍ جديدٍ على لبنان، ولكنها لا تريد الهروب من هذا الاستحقاق بشكلٍ فاضح. فبعد أن لمست "إسرائيل" صرامة حزب الله أولاً، واستعداده للذهاب بعيداً في الاشتباك المتدحرج ثانياً، حتى لو أدّى ذلك للوصول إلى مرحلة الحرب المفتوحة، استنتجت أنّها ليست فقط أعجز من خوض حربٍ مفتوحة مع حزب الله، بل أعجز من تنفيذ استراتيجية "الأيام القتالية"، وتظهير هذا العجز بدوره يشكل خطراً وجودياً على الكيان، لأنّه بمثابة عجزٍ وظيفي.
لو عدنا بالذاكرة عشرة أيامٍ للخلف، لرأينا كيف مارست "إسرائيل" الهروب الأحمق بشكل رسمي، حيث إنّه بعد سيلٍ من التهديد والوعيد لإيران كظلٍ للتهديدات الأمريكية البريطانية، على إثر استهداف سفينة "إسرائيلية"، استشعرت "إسرائيل" أنّ الولايات المتحدة وبريطانيا والناتو ليسوا في وارد مهاجمة إيران. وبدل أن تبتلع لسانها كما فعلت مع صواريخ حزب الله، قام رئيس الحكومة بينيت ووزير حربه بالتهديد بمهاجمة إيران بشكلٍ منفرد، وكان هذا شكلاً من أشكال الهروب الأحمق، بينما مركز بيغين - السادات يقدم وصفة الهروب الرشيق لحكومة بينيت الطائشة، حيث تصبح غزة بمثابة صندوق بريد للبنان، وتحتفظ "إسرائيل" بمظهر المستعد دوماً للحرب والقادر على التدمير، وفي ذات الوقت دون الحاجة لتبرير عجزها وجثوها أمام حزب الله، لأنّها أخرجته من المعادلة، ولكن ما يجعل هذه المعادلة متأخرة جداً، هو أنّها جاءت بعد الإعلان عن تجهيز محور المقاومة لحربٍ إقليمية، فالاستفراد بغزة إلى حد كسرها لم يعد مسموحاً، ولم يكن مسموحاً بالأصل، ولكن بعد إعلان الحرب الإقليمية، أصبح الأمر أشدّ واقعيةً ويقينية. ومن جانبٍ آخر فإنّ هذا يعني أنّ "إسرائيل" ستعتمد كلياً في لبنان على الأدوات الأمريكية، وهو ما سيجعل الفوضى على رأس أولوياتها، ولكن كما قال السيد نصر الله في خطابه العاشورائي، هذا المخطط سيفشل كما فشلت كل المخططات الأمريكية السابقة، وعلى الأدوات الأمريكية في لبنان، أن تأخذ الكثير من العبر، من السلوك الأمريكي في أفغانستان.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024