ابناؤك الاشداء

نقاط على الحروف

خطاب القسم وواقعية المبادئ
19/07/2021

خطاب القسم وواقعية المبادئ

ايهاب زكي

تمتاز السياسة السورية بأنّها شديدة الواقعية، وتتجنب المبالغات والتهويل والتقليل، كما قال الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم "أنا أكره المبالغات"، ورغم هذه السياسة الواقعية التي يُفترض أنّها تتطلب أحياناً المسّ بالمبادئ العليا لتحقيق مصالح واقعية، على القاعدة "المكيافيلية"، إلّا أنّها في الحالة السورية لا تقترب على الإطلاق من هذه المبادئ. وهنا قد تكون سوريا هي الاستثناء الوحيد في ممارسة الواقعية السياسية، والتي تعتبر أنّ الواقعية هي التمسك بالثوابت، والانطلاق منها لتحقيق المصالح، وليس التمسك بالمصالح ولو على حساب الثوابت، وهذا الأمر كان شديد الوضوح في خطاب القسم للرئيس الأسد، فبعد عشر سنوات ونيف من الحرب على سوريا، لا زالت المبادئ هي الثابت الوحيد، وهي المبادئ التي كانت سبب شنّ العدوان على سوريا، وهي العروبة، التي تعضّ دمشق عليها بالنواجذ، ومركزية فلسطين القضية والشعب، وتحرير الجولان والثقة بالحلفاء وإيران خصوصاً، كما ثابت آخر استجدّ على إثر العدوان، وهو استعادة الجغرافيا السورية كاملةً، وطرد المحتلين بغض النظر عن أسمائهم وأهدافهم.

العروبة التي حاول العدوان على سوريا تسلقها وتملقها، لتبدو دمشق العربية هي العدو، اعتبرها الرئيس الأسد ركيزة الوجود والبقاء، وأنّ سقط المتاع ممن تسلقوها وسمّاهم بالمستعربين، ليس مأخذاً على العروبة، وأنّ تسلقهم إياها لن يدفعنا لإطلاق النار على أنفسنا، فحين نصدق أنّ سقط المتاع هو العروبة، يدفعنا بهوجائيةٍ لنطلق النار على العروبة. هذه الوصفة الأمثل للانتحار، وهذه هوجائية امتاز بها بعض من ادّعى وقوفاً مع الدولة، حيث صوبوا سهامهم نحو العروبة كمفهوم وكفكرة وكهوية، وقد انساقوا بهذا التوجه مع أهداف العدوان، حيث الهدف النهائي هو التفكيك والتقسيم والتشتيت. بينما الواقعية السورية وكما تبدى في خطاب القسم، ترى في العروبة بوتقة انصهار الجميع وتمازجهم، وليست فكرة احتكارية للسمو العرقي، وهذا الفهم السوري العميق رغم سنوات الجمر لفكرة العروبة، يرسّخ دمشق كالقلب النابض للعروبة، ويجعل منها السدّ الأخير أمام انهيارات القيم وضياع الهوية، أمّا وصف "المستعربين" الذي أطلقه الرئيس الأسد، فترجمته السياسية القاطعة، هي أنّ سوريا لا تبحث عن عودةٍ للجامعة العربية، وأنّ هذا في أدنى سلم الأولويات، كما أنّها تعني أنّ دمشق تدرك أنّ قرار الأنظمة المستعربة في واشنطن أو "تل أبيب"، لذلك فهي لا تنتظر منهم تراجعاً أو إعادةً للعلاقات وفتح السفارات.

أمّا فلسطين، فقال فيها الرئيس الأسد "ستظل هي القضية الأقرب لسوريا، والشعب الفلسطيني هم أشقاؤنا رغم الغدر والنفاق". والواقعية السورية هنا تدرك عميقاً أنّ كل الأزمات في المنطقة، منطلقها فلسطين، بما فيها الحرب على سوريا، وأنّ التخلي عن فلسطين، هو التخلي عن كل الجغرافيا العربية والسيادة العربية والهوية العربية والمستقبل العربي، وأنّ الاستسلام أمام العدو "الإسرائيلي" سيكون أكثر كلفةً من مقاومته، وأنّ التخلي السوري عن فلسطين من أجل الخبز، يعني التخلي عن الجغرافيا والقرار والسيادة والمصالح لصالح "إسرائيل"، ففلسطين ليست قضية أشخاص أو فصائل أو حتى شعب، بل في المفهوم السوري هي قضية مصير أمّة. وهذا الفهم السوري لموقع القضية الفلسطينية، والفهم لموقعها من هذه القضية ومن هذا الصراع، هو أخطر الأسلحة التي حاولت هذه الحرب على سوريا أن تنتزعها منها، ولكن الإدراك السوري مع أسطورية الصمود القيادي والعسكري والشعبي، جعل سوريا تحتفظ بسلاحها الأمضى، بل أكثر من ذلك، حيث ازدادت سوريا من تمسكها بهذا السلاح وتحاول شحذه على الدوام، فهذا السلاح يشكّل الطعنة الناجزة للمفاهيم الاستعمارية من على شاكلة النأي بالنفس وسوريا أولاً ولبنان أولاً إلخ...، حيث إنّ هذه المفاهيم هي الخطوة الأولى في طريق الوهن، والقفزة الكبرى نحو القابلية للاستعمار.

كما لمّح الرئيس الأسد للاستراتيجية السورية تجاه المناطق المحتلة في الشمال السوري، وهي استراتيجية تعتمد ركيزتين، الأولى هي الحفاظ على الدماء قدر المستطاع، وأنّ إنهاء الاحتلال بالطرق السلمية هو الطريقة المثلى، وهذا بالاعتماد على الثقة بالحلفاء، الذين يحاولون الوصول إلى هذه النتائج على قاعدة كثير من الوقت قليل من الدم، أما الركيزة الثانية فهي الاستعداد والقدرة على استعادة كل الأرض بالقوة، وأنّ تعنت الإرهاب ومشغليه لن يغني عنهم شيئاً، في حال قررت سوريا استعادة أراضيها بالقوة. كما وضع الرئيس الأسد قواعد التعامل مع أمريكا وتركيا، فالأول مخادع والثاني غادر، ورغم أنّ هذه هي القاعدة السورية للتعامل، إلّا أنّها تبدو أيضاً رسالة لحلفاء سوريا، الذين يحاولون التوصل لتفاهمات تخص إدلب وشرق الفرات، وكأنّي بالرئيس الأسد يقول: نعرف النتائج مسبقاً، ولكن لن نترك وسيلةً مهما كانت ضعيفة الحظ لحق الدماء، إلّا وسنسعى بها ونسلكها، كما يقول أنّ مراعاة مصالح الحلفاء هي واجبٌ مستحق، لكنه في النهاية لا يعطي وقتاً أبدياً، كما لن يكون على حساب الجغرافيا السورية. وعلى الولايات المتحدة وتركيا أن تدركا تلك المعاني خصوصاً الولايات المتحدة، والتي اعتبر الرئيس الأسد أنّها صاحبة القول الفصل، وهي من رسمت الخطوط والأدوار للإخوة الأعداء من ترك وكرد وإرهابيين في إدلب، وعليه فإنّ خطاب القسم كما كان تظهيراً لهزيمة المشروع الأمريكي، كان وضعاً للنقاط على حروف المستقبل، وتشبثاً بتحقيق النصر النهائي والناجز.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف