نقاط على الحروف
عند جديد السيمفونيات: "الاحتلال الايراني"
ليلى عماشا
دخلت عبارات جديدة كـ "الاحتلال الإيراني" و"الغزو الثقافي الفارسي" سوق التداول الافتراضي على ما يبدو وفقًا لخطّة تسويق ناعمة. فمنذ مدّة، يتعثر الناشطون على منصّات التواصل بهذه العبارات بين الحين والآخر، إذ ترد كعنوان أو كوسمٍ مرفق بمواقف ومنشورات وأحداث لا يظهر لها أي صلة واقعية أو حقيقية مع عنوانها.
ولهذا بقي التعاطي معها ساخرًا، وأقرب إلى التندّر منه إلى النقاش الذي قد يصل إلى توضيح ما.
من هم مروّجو عبارة "الاحتلال الإيراني"؟
في كلّ مرّة يستشيط فيها ناشط غضبًا ورفضًا "للاحتلال الإيراني"، يصبح التساؤل عن قدراته الذهنية وصحّته العقلية تساؤلًا مشروعًا، لا سيّما وأن كلمة "الاحتلال" هي كلمة مرتبطة في أذهاننا جميعًا بالعدو الصهيوني وبسيل من المشاهد التي لا تخلو من الدمع ومن القهر ومن الدم، الكثير من الدم الذي أراقه هذا العدو من أعمارنا ومن ذاكراتنا ومن أحبّتنا. وحين نلمح كلمة "الإيراني" ملحقة بالإحتلال، أوّل ما يتبادر إلى ذهننا هو كلّ ما بذلته وتبذله الجمهورية الإسلامية في إيران من دعم وإسناد للمقاومة في سبيل رفع خنجر الإحتلال عن أوردتنا جميعًا. من هنا، مجرّد وضع كلمتيّ "إحتلال" و"إيراني" ضمن عبارة واحدة يستدعي السخرية أولًا، ومعها سيل هائل من الشبهات. منطقيًا، وبمعادلة لا تحتاج إلى مستوى متفوّق من الذكاء، يمكن استنتاج التالي:
يُعتمد لفظ "الاحتلال" في توصيف حالة تواجد أو استقرار للعدوّ على أرض ليست له. وبالتالي، المروجون للعبارة الخرافية تلك يعتبرون إيران دولة عدوّة ويُخيّل إليهم أنّها تتواجد أو تستقر على أرضهم. وهنا، يقع المروّجون في شبهتين متوازيتين: الشبهة الأولى هي معاداة الدولة التي دعمت وساندت مقاومة الاحتلال الصهيوني وتجابه الرأس الأميركي المدبّر لكلّ المصائب في تاريخنا الحديث، وبالتالي تصبح هذه الشبهة حكمًا التواجد في معسكر التصهين ولو ذهنيًا فقط.
أما الشبهة الثانية فهي التصريح بهلوسات سمعية أو بصرية تدور حول "احتلال" لا وجود له إلّا في الأذهان التي وقعت فريسة هلوساتها.
رغم ذلك، يصرّ فريق الترويج لهذه الخرافة الهوليوودية المشبوهة على المجاهرة بالكذب على قاعدة "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون، ثمّ اكذب حتى تصدّق نفسك".
لهؤلاء وبغياب أي مادّة قانونية تجرّم الترويج للخرافات والهلوسات السياسية، لا يمكن إلا تمني الشفاء وبعض التعقّل، لأجلهم ولأجل أن يتمكنوا من استعادة القدرة على التقدير الصحيح للأمور، أو أقله القدرة على النظر إلى ذواتهم باحترام.. فأول ما يفقده المجاهر بالكذب هو احترامه لنفسه.
من "الاحتلال" إلى "الغزو الثقافي"، بدّل!
كما في كلّ حالة هجوم، ينقسم المهاجمون إلى فرق مختلفة. وإن كان ثمّة فريق لا مشكلة لديه بالكذب المكشوف والمفضوح بحيث يمارس التغابي والاستغباء باعتماد عبارة "الاحتلال الإيراني"، فثمة فريق يحاول ممارسة بعض التذاكي بغية التسويق للكذبة ذاتها بأسلوب ملتبس يخفيها بالمصطلحات "الحديثة": الغزو الثقافي.
اصطلاحًا، الغزو الثقافي هو أن تقوم ثقافة غريبة وبعيدة بالتسويق لنفسها في مجتمع لا صلة ثقافية أو تاريخية لها معه. كأن يقوم فرد من قبيلة تعيش في أدغال إفريقيا بالتسويق لثقافتها في مدينة بيروت مثلًا، ويستخدم من أجل هذا التسويق أساليب مختلفة بغية طبع المدينة بطباع القبيلة تلك. هنا يمكن القول إن غزوًا ثقافيًا يحدث.
وللغزو الثقافي مؤشرات من السهل كشفها بسبب غرابتها عن البيئة المستهدفة وتاريخها وهويتها. (والأمثلة كثيرة عن مظاهر الغزو الثقافي لمجتمعنا ولا يتسع المجال الآن لتعدادها). أما أن يتحدث كائن غريب الأطوار عن غزو ثقافي إيراني للبنان معتمدًا على مؤشرات كانتشار الحسينيات واللباس المحتشم وقد يصل البعض إلى اعتبار كلّ مظهر للتديّن دليلاً على هذا الغزو، فهنا يتوه الرائي بين توصيف الكائن ذاك بالجاهل بثقافة بلادنا أو بالحاقد على هذه الثقافة والساعي إلى تظهيرها كثقافة دخيلة. وهنا يحق لنا التساؤل، من يكون الدخيل، الجاهل بهويتنا والحاقد عليها، أم نحن؟
الهدف: عزل حزب الله
الجواب عن سؤال: "مَن الدخيل؟" يقودنا حكمًا إلى تسمية الأشياء بأسمائها: مشكلة حاملي شعار "لا للاحتلال الإيراني" و"لا للغزو الثقافي الفارسي" ليست في المظاهر الدينية والثقافة المرتبطة بها وبالفطرة وبالأرض، مشكلتهم هي بكون المعبّر الأقوى عن هذه الثقافة وهذه الهوية، وحاميها وحاملها هو حزب الله. بكلام أوضح، يحاول هؤلاء إظهار بيئة حزب الله كبيئة دخيلة، أو كعنصر ذي هويّة لم تولد من هذا التراب ولم تروِه بدمها وعرقها ودمعها.
والهدف من ذلك ليس خفيًا. فشيطنة حزب الله كانت ولم تزل في رأس قائمة الأهداف الأميركية في المنطقة، وحاجة الأميركيين إلى عزل حزب الله ليست حاجة طارئة أو مستجدة وقد بذل الأميركي لأجلها جهودًا هائلة في مختلف الميادين من السياسة إلى الاقتصاد، ومن العسكر إلى الإعلام، ومن التعليمات "السفاراتية" الصارمة إلى نعومة الشعارات "المدنية" البراقة والجاذبة. وطبعًا فشل بشكل ذريع في كلّ هذه الميادين لسبب أساسي وهو أنّه وحده الدخيل، وأدواته الصدئة التي استخدمها هي التي وقعت في بؤرة الانعزال عن أرضها وترابها ومجتمعها، وإن كانت لا تزال الآن في طور المكابرة.
إذًا، إذا أراد مختلف فرقاء الترويج للخرافات الأميركية التي تتحدث عن احتلال ايراني أو عن غزو ثقافي فارسي مصارحة الآخرين بحقيقة السلعة التي يحاولون تسويقها بعلب مختلفة الأحجام والألوان والمسميات، سيجدون أنفسهم يكرّرون نسخة متكرّرة من جملة واحدة: عزل حزب الله هو حاجة أميركية ونحن كأدوات لا نملك إلا تلبية التعليمة بالترويج لكلّ ما يؤدي أو يسهّل تحقيق هذه الحاجة. وإذا امتلكوا جرأة التصريح هذه يومًا، قد يحظون بشرف الخصومة مع هذا الحزب وبيئته، أما مع إصرارهم على تغليف حقيقتهم بأقنعة التعابير الركيكة والمصطلحات الفضفاضة، فسيبقون في دائرة الأدوات الصدئة، التي سيتخلى مشغلها عن استخدامها ويرميها في سلة المهملات غير الصالحة حتى لإعادة التدوير.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024