نقاط على الحروف
كيان المناورات والانتخابات
ايهاب زكي
يعرف كيان العدو "الإسرائيلي" أنّ الصمت على الجبهات هو صمتٌ مخادع، وهو بمثابة الشجرة التي تُخفي غابة الموت. ورغم أنّ نتن ياهو يستخدم هذا الصمت انتخابياً، باعتباره رئيس وزراء جالبًا للأمن أقله لا فارضه، فإنّه يدرك ومن خلفه النخبة السياسية وخصوصاً العسكرية، أنّ الأمر ليس بحاجةٍ لأكثر من حماقةٍ واحدة، حتى ينفجر الصمت في وجه "إسرائيل" على شكل لعنة الزوال. فالحرب الانتخابية في الكيان ليست مجرد حراك ديمقراطي، أو حتى مجرد أزمة سياسية أو حكومية، إنّها أزمة وجود ومصير، ذلك أن الكيانات المصطنعة لا تخضع لمعايير عامة، فبحكم أنّها طارئة تخضع لمعايير استثنائية، ولا يوجد في الدول الطبيعية أيّة مقاييس من الممكن إسقاطها على كيان مصطنع. فمثلاً كان البرنامج الانتخابي لكل المرشحين على مدار عمر الكيان هو مزيد من الأمن ومزيد من الاستيطان ومزيد من القتل. وبما أنّ "الأمن" متحققٌ بفعل البيئة الاستراتيجية وحساباتها حالياً، لا بفضل الردع "الإسرائيلي" وقوة نتن ياهو، والاستيطان كذلك متحقق لذات السبب وليس لقوة نتن ياهو، يظل المزيد من القتل هو المأزق الذي يعجز عن تحقيقه نتن ياهو كعجز الآخرين.
وهذا ما يجعل الدورات الانتخابية تتلاحق، لأنّ المستوطن الصهيوني غير قادرٍ على الشعور بالأمن، وغير واثقمن أنّ أيّ مرشحٍ قادر على توفير الملاذ الآمن لوجوده، وإلّا كيف نفسر إصرار المستوطن الصهيوني على منح صوته لنتن ياهو رغم أزماته المتلاحقة والمتعددة، من أزمة الفساد إلى البطالة إلى أزمة كورونا، وكما يقولون هم إصراره على تعطيل الحياة السياسية لمآرب شخصية؟ التفسير الوحيد أنّ كل الأزمات تتلاشى أمام أزمة الوجود، والتي لا يملك أيّ مرشح حلولاً لها، وبالتالي فإنّ بقاء نتن ياهو كعاجزٍ يعرفونه، أفضل من عاجزٍ لا يعرفونه، ولا يمكن التصوّر على الإطلاق أنّ الانتخابات هي على نتن ياهو، كما يحاول الإعلام "الإسرائيلي" تصوير الأمر، باعتباره تصويتاً على بقاء نتن ياهو أو رحيله، إنّما الحقيقة هي مراكمة العجز وبالتالي مراكمة فرص التغلب عليه من خلال تكرار الانتخابات، حيث يأمل الناخب "الإسرائيلي" في بروز شخصيةٍ قادرةٍ على منحه الاطمئنان، وحتى هذه اللحظة لم يتم صياغة خطاب انتخابي أو حتى خطاب استراتيجي لمواجهة محور المقاومة، بل كل ما يتم تقديمه من خطاب يمتاز بالشعبوية أولاً غير المقنعة، كما يمتاز بالعدوانية المفرطة غير المستندة لحقائق ميدانية، وهذا يدركه الناخب في كيان العدو.
وبما أنّ الانتخابات الصهيونية باعتبارها تجري في كيان طبيعته استثنائية، فهي تمثل الوجه الآخر للعسكرية الصهيونية، لذلك فالتأزم السياسي مرتبط بالتأزم العسكري على طريقة الأواني المستطرقة، وكما يتم الهروب من الأزمة الحقيقية سياسياً إلى الانتخابات، يتم الهروب من الأزمة العسكرية إلى المناورات، وكذلك كما أنّه لا يوجد حسم انتخابي سياسياً، فإنّه لا قدرة على حسم عسكري في المناورات، والمعضلات القائمة التي يعاني منها "جيش" العدو والثغرات ونقاط الضعف، لم يتوصل لوسائل التغلب عليها، وهذا ما يجعله في حالة مناورات دائمة. وحتى الآن قد تجدي كثرة هذه المناورات في التسجيل على صفحات كتاب "غينيس"، لا في الميدان العسكري الحقيقي، فحتى التصوّرات "الإسرائيلية" المعلنة عن شكل الحرب المقبلة، تبدو في كثيرٍ من الأحيان تصوراتٍ طفولية، ولا أعرف إذا كانت هذه الطفولية متعمدة على سبيل طمأنة المستوطن، أم أنّها بالفعل تصوراتٍ نابعة عن جدية، وبالتالي عن حقيقة الكيفية التي يعمل بها العقلى
"الإسرائيلي". وعلى سبيل الاستئناس، بعد الاجتياح "الإسرائيلي" لبيروت عام 82، وتوقيع ما يُعرف باتفاق 17 أيار لاحقاً، قال ديفيد كمحي "لا كاتيوشا بعد اليوم"، في إشارةٍ للصواريخ التي كانت تطلقها المنظمات الفلسطينية، على المستوطنات "الإسرائيلية" شمال فلسطين المحتلة من جنوب لبنان، وهذه هي اللغة الانتخابية التي يفهمها المستوطن الصهيوني لا سواها، فهل من مرشحٍ "إسرائيلي" الآن يستطيع القول "لا فاتح ولا زلزال ولا أيوب ولا مفاجآت بعد اليوم؟" من يستطيع قول ذلك سيفوز بأكثر من ثلثي مقاعد "الكنيست" على الأقل.
ما سبق يدركه نتن ياهو أكثر من أيّ إنسانٍ آخر، لذلك فإنّ المستقبل الذي يعمل على صناعته، هو مستقبلٌ بلا مواجهات عسكرية فعلية ومباشرة، وما حدث أول أمس في الأردن عما قيل إنّها محاولة انقلاب تأتي في هذا الإطار، حيث يعتمد نتن ياهو مبدأ مساومة بن سلمان على عرشه، من خلال انتزاع قبول أمريكي به، مقابل تنازلات يقدمها بن سلمان في القدس، عبر السطو على الوصاية على الأماكن المقدسة في فلسطين المحتلة، وهي الوصاية التي يضطلع بها العرش الهاشمي في عمان، والأخطر أنّها على المدى المتوسط أو البعيد قد تكون مدخلاً لإقامة الهيكل، خصوصاً أنّها وصاية دينية لعائلةٍ تقيم شرعيتها بالوصاية على الحرمين، وهذه بعض مظاهر تلخيص رؤية نتن ياهو لإطالة عمر الكيان، وذلك عبر تجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع محور المقاومة أولاً، ورسم حدود النفوذ في المنطقة عبر عَرّابي التطبيع ثانياً، فتصبح "إسرائيل" هي من تمنع وهي من تمنح في المنطقة. فابن سلمان يعتقد أنّ تتويجه ملكاً لخمسين عاماً قادمة، لن يمرّ إلّا عبر "تل أبيب"، وفي سبيل هذا الطموح قد يقدم ما لا يخطر على قلب بشر، ولكن ما لا يستطيع إدراكه، أنّ أقصى ما يمكن للكيان تقديمه، هي الانتخابات والمناورات، وبعض التكنولوجيا المتقدمة في ألعاب "البلاي ستيشن" التي يحبها.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024