نقاط على الحروف
الإعلام الجديد: سمّ الموضوعية القاتل
ليلى عماشا
في التعداد النظري لمهام الإعلام يمكن أن نقرأ "تكوين الرأي العام للجمهور" أو "التأثير بالرأي العام وتوجيهه" أحيانًا حيال قضيّة معيّنة أو شأن محدّد. في التجربة الإعلامية اللبنانية، كما في أي مكان آخر من العالم، أمكن لهاتين المهمتين الموكلتين إلى الإعلام بكل أنواعه أن تتشعبا إلى مهام أخرى ومنها تضليل الرأي العام عبر إشاعة الأكاذيب حتى تلك التي من السهل انكشافها، وعبر دسّ الأفكار المغلوطة في سياقات ظاهرها حقّ وباطنها "عوكريّ المنشأ"، وعبر افتعال الضجيج حول التفاهات لتمرير رسائل مدفوعة سلفًا.
حين بدأ هذا الإعلام بالتسويق لشعار "كلّن يعني كلّن"، لم يكن خافيًا على عاقل أن الهدف الأساسي من صيغة التعميم هذه هو تمويه أسماء المرتكبين عبر الزج بأسماء غير المرتكبين إلى المعمعة. ومع تصاعد الحملات الإعلامية التي تتكفّل عوكر بتكاليفها ضدّ حزب الله، وجب أن يتم تقسيم الأدوار بين الوسائل الإعلامية بحسب الفئات التي تتابعها على سبيل تنويع الفئات المستهدفة من ناحية، ولإيجاد نوع من المراتب في انكشاف الوجهة المتأمركة من الأكثر وضوحًا إلى الأكثر تستّرًا خلف الشعارات التي تعني الناس بدون أن تصطدم مباشرة بخطوطهم الحمراء.
ولذلك، تحت شعار محاربة الفساد، المصنّع والمحمي والمصان أميركيًا، كان لا بدّ من حماية الفاسدين عبر تلك الـ"كلّن يعني كلّن"، فإن كان لا بدّ من مجاراة الرأي العام المتضرّر من الفساد، فلا بد من مخاطبته عبر دغدغة بالشعارات التي ظاهرها "ضد الفاسد" وباطنها الفساد الخام..
بالمبدأ، تُعرّف الموضوعية في الإعلام بأن يكون الإعلامي، فردًا أو مؤسسة، على مسافة واحدة من كلّ الأطراف. ولعلّ هذه "الموضوعية" أباحت لبعض الإعلاميين التبجّح بالوقوف على مسافة واحدة من الحقّ ومن الباطل، دون أي التفات أو تقدير للقيمة الأخلاقية في الاقتراب من الحق أو في الابتعاد عن الباطل.
وعلى الرغم من بشاعة الموضوعية المدعاة هنا، إلّا أنّها وُجدت لتغلّف الانحياز إلى الباطل، أو تجميله، أو صرف النظر عن قبحه عبر اختلاق قبح وهمي في وجه الحق، بحيث يبدو أنّ ثمة تعادلا بين النقيضين، أو تشابها يبيح القول "كلّن يعني كلّن".. وحين يكون وجه الباطل مكشوفًا بحيث لا يمكن تجميله، يمكن للموضوعية المشوّهة أن تلعب لعبة قذرة: يتحدّث الإعلام عن بعض الملفّات المدروسة والمعروفة والتي ما عاد من الممكن إخفاؤها ويتناول الأسماء التي لا يمكن تحسين سمعتها الملوّثة بالسفالة المشهودة، حتى يقول المشاهد: يا لموضوعيتهم ومصداقيتهم.. ثم ينتقلون تحت العنوان ذاته إلى تناول ملفات وأسماء لا غبار عليها وعلى سيرتها ومسارها لوضعها في محل شبهة غير واضحة المعالم.
وبهذا يكون الإعلام قد حقق النقاط التالية:
- جذب انتباه المشاهدين والمتابعين (ما يُعرف بالـ rating) عبر عنوان مضلّل، وهنا استخفاف صريح وواضح بعقول الناس.
- وضع الأسماء المستهدفة في دائرة اتهام غير واضحة وإن بشكل مؤقّت.
- افتعال قضية وهمية تساهم في التعتيم على قضايا حقيقية.
- محاولة تشكيل رأي عام لا يجيد التمييز بين الصح والخطأ، بين الارتكاب وعدمه..
في كل يوم وعلى مدار الساعة، يمكن رصد مواد مضلّلة تفوح من مستودعات بعض الإعلام.. عبر الشاشات، في طيّات الأوراق، وخلف الكلمات المسنونة على منصات التواصل يمكن للمتابع أن يجد بسهولة شديدة كمًّا هائلًا من الارتكابات الإعلامية التي تهدف إلى توجيه الرأي العام ضدّ من ترى فيهم شيا (ومَن تمثّل) خطرًا على مصالح بلادها وعلى فريقها المحليّ. اللافت في الأمر، أنّ غالبية هذه الارتكابات تبدو مكشوفة الخلفية والأهداف بشكل فاضح، وبشكل يجعلها عاجزة عن تأدية الدور الموكل إليها لا سيّما وأنّ البيئة التي يُعمل على استهدافها تمتلك من الوعي ما يكفي لترفض الانضمام إلى قطيع "رأي عام" يشكّله العوكريون، بمختلف رتبهم.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024