نقاط على الحروف
الأمومة في ساحة الحرب
ليلى عماشا
تفرضُ الحرب أبجديتها ولغتها ومفرداتها وتراكيبها الكلامية.. تغيّر في صياغات كلّ الكلمات، وربّما تكثّف المضامين والدلالات بحيث يصبح لكلّ كلمة دويّ عظيم.. الأم، في الحرب، حكاية أخرى.. تكاد توحي بأمومة شاهقة، تمتاز على سائر الأمومات بسبب اختلاطها بمفاهيم ودلالات توازيها ارتفاعًا كالإيثار مثلًا وكالإنتظار وكالصّبر العظيم.
في تراب الفطرة، لا فارق بين أمومة وأخرى، فكلّ ورد الأمومات أبيض، وكل خبز الأمهات يُشبع، وكلّ ضمّاتهنّ دفء صرف.
أمّا حين تخوض الفطرة حربًا، أيّ حرب، يستحيل الورد جيشًا ويصير الخبز حقول قمح وتصير الضمّة قربانًا.
لذلك، تؤرَّخ الحروب بوجوه الأمهات، بأصواتهنّ، بتجاعيد وجوههنّ، ببسماتهنّ، بالتعب الذي تبوح به كفوفهنّ، بصبرهنّ، بحسنِ إدارتهنّ لكلّ الخطوط التي خلف المعركة.
وتُقاسُ المواجع بجرحِ الأمهّات.. بأوردتهنّ الذبيحة فوق الضجيجِ وفوق الركام.. بعيونهنّ التي تاهت بين أملٍ عنيد وخبر جرّاح.. بحبقِ قلوبهنَ ينفثُ الجمرَ وآخر نسيمات العطر.. تُقاس الالام بحزنهنّ، بحريقهنّ المكتوم، بنزيفِ نبضهنّ وقد حوى عمرَ الغوالي من الضمّة الأولى إلى يوم الفقد.. تُقاس الأحزان بأنّاتهنّ تحدي للكفن: "روح يا حمام ما تصدّق.. بضحك عالغالي لينام".
في بلادنا، كلّ التراب حقل اشتباك، كلّ الساحات معارك، كلّ الأيام ساعة الصفر.. من العسكر إلى الحرب الإقتصادية، تخوض الأمهات معارك يومية.. وعلى ذلك أمثلة لا تتسع لغة لذكرها.
ماذا لو أردنا أن نذكر محاسن أمّهات الشهداء.. ماذا لو أردنا أن نرسم عنهن صورة تحوي كلّ تفاصيلهنّ القدسية، وكلّ أمومتهن المخضّبة بالفقد وبالشوق وبالصبر.. كيف يمكن اختصار حكاية كحكاية أمنا الحاجة أم عماد مغنية مثلًا.. جبل الحكمة الصابرة وأمّ المقاومة والمقاومين.. بل كيف يمكن كتابة جملة تامة عن تفصيل من تفاصيل صوتها بلا أن يقطع شهيق الدمع الجملة في منتصفها.
كيف يمكن اختيار الكلمات المعبّرة عن امرأة حوت في ظلّ أمومتها الوارفة جيشًا من شهداء يتوافدون إلى السماء قمرًا تلو قمر.
كيف يمكن وصف عيون أمومة تنتظر عند نافذة الدار ظلّ جميلها عائدًا، وفي الإنتظار تسقي بماء الصبر تراب الأرض كلّ الأرض، وتلقّن التراب كيف يُنبت في صحارى الأشواق وردٌ يقاتل، أو أمومة تستقبل الغالي جريحًا فتحيل قطرات دمه حبّات مسبحة كي تدعو له بقرب الشفاء والعودة إلى حيث تدرك بيقينها الأخّاذ أنّه مكانه الأمثل.. أو أمومة فُقد أثر جنين روحها ووليد رحمها والقطعة التي من كبدها تمشي على الأرض، وأيّ أرض!؟ أرض المعركة!
وبموازاة جبهات القتال، جميعنا اليوم نحيا في جبهة الحرب الإقتصادية التي تخوضها البيوت والعائلات، والدرع فيها الأمهات.
أرأيتم عيونهنّ وهنّ يتفقدن الأسعار المتوحشة لمكوّنات طبخة أو لشراء الحاجات الأساسية أو لتلبية القليل مما تشتهيه عيون طفل تعلّمه أنّنا مهما تعبنا لن نسلّم.
أرأيتم تلك الدمعات المختبئة في ثنايا صوتهنّ وهنّ يخبرن أولادهنّ عن قسوة الظرف وعن وجوب الصبر والتكافل كي لا نسقط في معركة أراد المهاجمون فيها أن يسلبونا عزّتنا؟ أسمعتم عن الأطفال الذين بعد خطاب السيّد الأمين قرّروا أن يقدّموا ما ادخروه في "القجة" لأطفال آخرين على سبيل الحبّ، أليس هذا الحبّ انعكاس لأمهّات أجدن التربية الأمثل؟
"الأم"، وحده اللفظ يكفي لانفجار ينابيع الحكايا من ذاكرات بعدد الناس، أمّا، "الأم في الحرب"، فهي حكاية ينبوع سماويّ شفّاف، يروي الأمومة والتراب، لتظلّ الأرض ولّادة للحبّ وللتضحيّة ولأمهات ما رأين إلّا جميلا.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024