معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

حدثني أبي عن وطني
26/09/2020

حدثني أبي عن وطني

أمير قانصوه

حدثني أبي أن سفينة حائرة في عرض البحر رمت جدي وأترابًا له، على شاطئ فينيقيا، فمشى بين أعواد القصب حتى وجد كهفاً يؤويه.

 

حدثني أبي أن جدي اتخذ له أرضاً، فلحها وزرعها فأنبتت من الثمرات رزقا وفيراً، فتلف الرزق قبل أن يجد له سوقاً.

 

قال أبي إن جدي دفع به الى المدينة عتّالاً في مينائها الكبير، ينزّل من السفن الكبيرة أثقالاً على كتفيه، وبعدها يرتدّ عائداً الى أحياء المدينة يحفر بين أبنيتها ممرات للسيارات الفارهة، ويكنس أزقتها ويسقي أحواضها ويجمع نفايات العائدين من لياليهم الصاخبة في مواخيرها.

كان جدي ينتظر ولده حتى يأتيه في العيد، لكن أبي كان يبيع في ساحات المدينة التفاح المحلى بالودّ، ويدفع المراجيح الكبيرة على وقع ضحكات الصغار وبهجتهم لقاء قروش قليلة.

وقبل الفجر بقليل كان يأوي الى غرفة صغيرة يشترك سكناها مع ابن عمه وبعض رفاق الضيعة.. يرمون على أرضها الرطبة أثقالا حملوها وكدّاً هدّ كاهلهم.

قال أبي إن المدينة كانت كبيرة يتسع قلبها للحالمين، وأرصفتها كانت مريحة لمن يتوسدها.. وأهلها كانوا أكثر ودّاً مع سكان الدساكر الفقيرة في ضواحيها البعيدة أو القريبة.

حدثني أبي أن جدي قاوم العثماني حين كان يريد أن يأخذه في السفربلك، وأنه لم يرضخ للفرنسي حين كان يسهر ضباطه في مقاهي بيروت مع وجوه المجتمع، وأنه ارتدى واصدقاءه أكفانهم وسكنوا الوديان والجبال ليحموا قراهم من العصابات الصهيونية..

يذكر أبي أن أول حروف تعلمها كانت في ظل شجرة زيتون معمّرة غرسها جدّه، وأنه حين سافر ابن عمّه الى مجاهل افريقيا وهبه كل ما ادخره من مال، ليدفع أجرة السفينة التي أقلته، وأن المدرسة الكبيرة التي في بلدتهم بناها ابن عمه وترك الزيتونة المعمرة يستظل بها كل من يرتاد هذه المدرسة.

حدثني أبي أن إمامه لم يكن صاحب عصًا، لكنه كان موسى بحكمته وصلابته وطيبته، جمعهم على خير البلاد والعباد، وانه هو القائل والفاعل: اذا احتلت اسرائيل جنوبي سأخلع ردائي وأصبح فدائيًّا. ولكنه أُخذ غدرًا.. وبقيت أمانته كمسار أمل وحياة.

قال أبي إن كثيرين لاقوا ذلك المحتل بصدورهم العارية، قاوموه بالزيت المغلي والصرخات.. وإن آخرين فتحوا له الابواب، وهادنوه وصافحوه وقاتلوا في صفه.. لا بل وضعوا الاصفاد في أيدي أبناء وطنهم، ووقفوا حرّاساً على أسوار المعتقلات.

كان أبي يقول: كتابك بيد والبندقية باليد الأخرى، هكذا تهزمون العدوَّين معاً الاحتلال والجهل.. وكان يحفظ عن ظهر قلب كلمة السيد عباس "كما نقاوم الاحتلال سنقاوم الجهل والحرمان".

**
أنهى جاري أبو مصطفى فحوصاته في مستشفى الرسول الاعظم (ص)، مرّ الى ثانوية المهدي (عج)، حيث كان حفيداه ينتظرانه، فوالدهما الطبيب لديه مناوبة في مستشفى الشيخ راغب حرب، أخذهما الى مجمع القائم (ع) حيث أدّيا صلاة الظهرين، وواصلوا سيرهم الى مبرة الامام الخوئي حيث حفيده هادي يدرس هناك.. والى الجنوب كانت وجهتهم، تذكر أن لديه موعداً مع صديقه في حديقة المعصومة (ع) في النبطية.. ليكمل بعده طريقه الى بلدته الحدودية.. كانت سهرة عامرة مع أولاده وأحفاده على شرفة منزلهم المطلة على سهول فلسطين.. وكان نجم السهرة حفيده هادي ابن الشهيد مصطفى الذي قضى قبل سنوات قليلة في مواجهة "داعش" عند الحدود الشرقية شمالي بعلبك.
**
حدثني جاري أبو مصطفى بالأمس.. أنه حين كان عتّالا في مرفأ بيروت، كان يحلم أن يرى ولده طبيباً، وكان يحلم أن يبني منزلا لعائلته على هذه التلة الحدودية، وكان يحلم أن يرى "اسرائيل" ذليلة كما يراها اليوم.. لكنه لم يكن يتوقع كأبي وجدي أن يكون هاجس شركاء له بالوطن أن يبقوه عتّالاً، وأن جلّ ما يتمنونه أن يورّث أبناءه مهنته التي لا ينقصها من الشرف شيئاً. "نعم يا ولدي.. بنيت اسرتي بعرق جبيني غير ذليل.. وحميت وطني بدم ولدي ورفاقه".
   
 حدثني أبي .. أن عمره في هذا الوطن من عمر صخوره وأن جذوره ضاربة في عمقه كالارز.. وأن ترابه جبل من رجال هم أجداده وجيرانه أحبابه، كما الابجدية التي رسم أجدادنا أول حروفها..

قبل نحو عام وقفت ابنتي ملك على مسرح ثانوية القلبين الاقدسين (البوشرية) ضمن منتدى "وجوه حوارية" وقالت إن "ما يجمعنا هو أكثر بكثير من الاختلافات البسيطة التي لن تفرقنا"، صفق لها الحضور وحضنتها رفيقاتها في المنتدى.. كانت رسالة محبة نابعة من القلب لا يستطيع تافه كيوسف الخوري أن ينزعها من قلوب أجيال ملّت عنصرية مستجدة لديه أو لدى أمثاله الى أي ساحة انتموا..

 

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف