معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

ثلاثة خطابات في ثلاثة أيام
17/08/2020

ثلاثة خطابات في ثلاثة أيام

ايهاب زكي

في اللحظة الأولى التي استمعت فيها لأنباء الاتفاق على توقيع معاهدة سلام بين "إسرائيل" ودولة الإمارات، دخلت في نوبة ضحك لا يضاهيها إلّا حضور مسرحية كوميدية من العيار الثقيل. ورغم أنّ الضحك مسبّبٌ لكمّ الأسئلة التي ثارت في رأسي دفعةً واحدة، إلّا أنّي اعتقدت أنّه ضحكٌ غير مسَبَّب، حيث من المفترض أن يكون الوقت للغضب، وإن لم يكن غضباً فالاشمئزاز على أقل تقدير.

لكن الواقعية العقلية تغلبت على الثبات الانفعالي، فانتصر الضحك وتغلبت السخرية، فلا يمكن إلّا أن تضحك وعقلك يوجه لك سؤالاً عن تاريخ الحروب الدامي والطويل بين الإمارات و"إسرائيل"، أو عن طول الحدود بين الكيانين، أو عن تبادل الأسرى والمفقودين، أو عن خرائط الألغام وترسيم الحدود، ولم يتوقف العقل عن طرح هذه الأسئلة وغيرها على شاكلتها، في تعمدٍ واضح لاستجلاب الضحك، وكأنّه يصرّ على إبعادي عن الغضب غير اللائق وغير المستحق، فأنا لست سياسياً رسمياً لأسجل موقفاً غاضباً بخلفياتٍ بروتوكولية أو دبلوماسية، بل أنا كاتبٌ أكتب ما أعتقد أنّه الحقيقة وما أرى أنّه الواقع.

الخطاب الأول

- كان خطاب الرئيس بشار الأسد أمام أعضاء مجلس الشعب، هو الخطاب الأول في هذا التسلسل الخطابي، وفي هذا الخطاب وضع كل النقاط فوق كل الحروف. فقد اعتبر الرئيس الأسد أنّ الأمريكي و"الإسرائيلي" والإخونجي التركي على ذات الدرجة من العداء، كما اعتبر أنّ الإرهابي السوري والإرهابي الأجنبي وكل جنديٍ محتلٍ سواء، وحين يضع الجنود الأمريكيين والأتراك في ذات خانة الإرهاب الداعشي والقاعدي المحلي أو المستجلب، فهذا قطعٌ مطلق لإمكانية التفاوض مع الولايات المتحدة أو تركيا الأردوغانية في ظل وجود القواعد العسكرية، وبالتالي فهو وجودٌ منعدم الأثر على المستوى السياسي، فلا تنازلات سياسية عجزوا عن تحقيقها عسكرياً، والتنازل الوحيد الذي ستقدمه سوريا، هو إن قررت تلك الدول الخروج من سوريا، ستتركهم سوريا يغادرون بأمان.

- كما أبقى الرئيس الأسد على المعادلة القائمة إزاء الغارات "الإسرائيلية" بلا تغيير في هذه المرحلة: "تصدٍ عبر الدفاعات الجوية دون الذهاب إلى استراتيجية هجومية". وهي المعادلة التي تراها سوريا الأنسب في هذه المرحلة، حيث الأولوية لإعادة توحيد الجغرافيا السورية قبل التفرغ للحدود، وهذه الضوضاء التي تحدثها "إسرائيل" عبر غاراتها المتكررة، كتبتُ سابقاً على هذه الصفحة الكريمة أنّها استراتيجية العجز، حيث تقوم الاستراتيجية على جناحي الاستعراض والتطبيع. فهي غارات لا تحدث فروقاً سياسية أو ميدانية، وفي ذات الوقت توهم المرجفين في المدينة بقوة "إسرائيل" فيهرولون للتطبيع، وفي ظل هذه الهرولة للتطبيع والانبطاح، جدد الرئيس الأسد تمسك سوريا بفلسطين كقضية الأمة المركزية، وجدد التزامه بالصمود والانتصار ورفضه للاستسلام، حيث أثمانه أكبر من ثمن المقاومة.

الخطاب الثاني

الخطاب الثاني هو الذي ألقاه ترامب في البيت الأبيض جامعاً أركان حكمه عن يمين وعن شمال، وكأنّه يعلن الانتصار العظيم على سكان كل المجرات، حيث أعلن الاتفاق على توقيع معاهدة سلامٍ بين دولة الإمارات و"إسرائيل"، والحقيقة أنّي تذكرت "كاليغولا" - وتعني الحذاء الصغير - حين استمعت لترامب، وهذا الـ"كاليغولا" هو أحد أباطرة روما المجانين، وكان له الكثير من سلوكيات المجانين التي لا تخلو من الطرافة أحياناً والتقزز غالباً، ووصل به الجنون أنّه عيّن حصانه عضواً في مجلس الشيوخ، وحين شعر بأنّ الناس بدأت تضيق بجنونه واقتربت من الانقلاب عليه، قرر شنّ حربٍ خارج الحدود ليستعيد إجماع الناس، فذهب لحرب بريطانيا واحتلالها، لكنه في منتصف الطريق تراجع عن غزو بريطانيا، واستبدل حربها بحرب "نبتون" إله البحر، فأمر جنوده بمصارعة الأمواج وصرعها، ثم أعلن الانتصار على إله البحر وأمر جنوده بجمع القواقع والصدف كغنائم، ثم عاد إلى روما منتصراً محتفلاً. وهكذا بالضبط فعل ترامب، دخل حرباً مع اللاشيء وأعلن الانتصار على اللاشيء لمجرد أن يعيد الناس انتخابه، فهو يبحث عن أي انتصارٍ يغطي على إخفاقاته وحماقاته، فجاء بالقواقع الإماراتية كغنائم حرب، وسيأتي بقواقع بحرينية قريباً وعُمانية وسودانية، أمّا القوقعة السعودية فلها شأنٌ آخر، لا يتسع المقام لسردها، فترامب المأزوم انتخابياً كما نتن ياهو، لا يجدان ما يقدمانه لناخبيهما سوى هذه الأصداف الفارغة.

الخطاب الثالث

- هو خطاب السيد حسن نصر الله في ذكرى انتصار تموز، وهو الخطاب الذي امتاز بالهدوء رغم ضجيج الاستهداف، وامتاز بالطمأنينة رغم جيوش الخوف، فالمقاومة ليست مأزومة ولا مترددة ولا تائهة، تنظر للعدو"الإسرائيلي" من فوهة البندقية، وتنظر للداخل اللبناني بعين السلم والاستقرار، فقد قال السيد نصر الله للعدو الصهيوني "انتظروا الرد"، والسيد يعيد تذكيرهم بالوقوف على "إجر ونص" ليس لأنّه يعتقد أنّهم أخذوا وضعية استرح، فكل العالم يشاهد الذل الذي يعانيه الكيان منذ ثلاثة أسابيع، ولكن رسالة السيد ألّا يتوهم أحدٌ في الكيان فيراهن على الوضع الداخلي في لبنان، فيظنّ إثماً أنّ الحزب نسي ثأره أو تنازل عن معادلة الردع، والحقيقة أنّ الكيان مستمعٌ جيد لما يقوله السيد، وعلى المطبلين في الإعلام أن ينتبهوا إلى أنّ نتن ياهو يأخذ أوامره من السيد نصر الله ويطبقها بحذافيرها، فهذا الأمر عليه الكثير من الشواهد، بعكس هرطقات الأوامر الإيرانية للحزب، حتى أنّ نتن ياهو يُغالي أحياناً في تنفيذ ما يُطلب منه، فمثلاً يقول السيد قفوا على "إجر ونص" فيهربون.

- ورغم أنّ السيد نصر الله قال إننا في حزب الله لا نملك رواية لما حدث في مرفأ بيروت، فإنّه استبق أيّ نتائج للتحقيق فيما لو أشارت لدورٍ "إسرائيلي" في انفجار المرفأ، واعتبر أنّ الرد لن يكون حسب نتائج التفجير، بل سيكون رداً فيما لو أنّ عصف الانفجار هدم بيروت كلها، ولا أريد الدخول في وعي السيد واستنتج ما لم يقله، ولكن يستطيع الجميع تقدير ماذا يعني الرد على تدمير العاصمة اللبنانية بأكملها.

- حين أتى السيد نصر الله في خطابه على الاتفاق "الإسرائيلي" الإماراتي، بدا أنّ نوبة الضحك التي انتباتني وقت سماعي خبر الاتفاق كانت في محلها، فالسيد نصر الله لم يعط هذه الخطوة أهميةً أكبر من حجمها، بل وضعها في سياق المنح التي تهبها الأقدار لأهل الحق، فتتخلص قافلة النصر ممن سيزيدونها خبالاً، حيث إنّ العلاقات مستمرة منذ 50 عاماً كما قال رئيس"الموساد" السابق، وما حدث فقط هو إخراجها من الغرفة المغلقة إلى قارعة الطريق، ليكون كل الناس شهداء وليس الله وحده والراسخون في العلم فقط، لأنّ فلسطين لن تتحرر وفي قافلة نصرها شوائب ينزلون عن التلة ليحتفلوا كمنتصرين، بل يجب أن يشربوا كأس الذل مرتين، مرة بيد "إسرائيل" وهي تسومهم سوء التطبيع، ومرة بيد المنتصرين وهم يسومونهم سوء الحسرة. 

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف