نقاط على الحروف
جامع النوري في العراق.. حكاية همجية واجرام "داعش"
بغداد - عادل الجبوري
قصة طويلة وعميقة وبليغة يحكيها جامع النوري التاريخي الشهير في محافظة نينوى، تمتد من اعلان الزعيم السابق لتنظيم "داعش" الارهابي ابو بكر البغدادي دولته المزعومة من على منبر ذلك الجامع في الخامس من شهر تموز/ يوليو من عام 2014، أي بعد حوالي ثلاثة أسابيع من اجتياح "داعش" لنينوى ومدن عراقية أخرى، ومن ثم اقدام الأخير على تدميره تموز / يوليو 2017 بعد تعرضه للهزائم والانكسارات المتلاحقة وارغامه على ترك الكثير من المواقع والمناطق التي كان قد سيطر عليها في اوقات سابقة، الى عودة الروح لذلك الجامع ورفع الاذان مجددا من على مأذنته الحدباء قبل بضعة أيام.
قصة جامع النوري، تحكي قصة ظهور وصعود "داعش" وخسارته وانكساره وهزيمته، ومن ثم ازالة ومحو ما خلفه من آثار الدمار والخراب المادي والمعنوي الكبير في العراق ودول أخرى.
لم يكن اختيار المجرم البغدادي لمنبر جامع النوري ليعلن منه خلافته، أمرًا اعتباطيًا وعفويًا، اذ إنه كان بإمكانه أن يقوم بذلك الأمر من أي مكان اخر، لكنه أراد في واقع الأمر أن يوصل رسالة معينة من خلال الاختيار الدقيق للزمان والمكان.
فجامع النوري الذي شيده الشيخ نور الدين الزنكي، يعود تاريخ بنائه الى القرن السادس الهجري، أي الى ما قبل تسعة قرون، وهو يعد ثاني أكبر جامع في نينوى(الموصل) بعد الجامع الأموي، ويقع في الجانب الأيمن للمدينة، وقد أضفى مزيدًا من الأهمية التاريخية لها، لا سيما وأنه امتاز بمنارته الحدباء المائلة.
ولعل البغدادي، أراد ان يقول إن "هذا المكان الديني التاريخي هو مركز خلافة دولة داعش"، ناهيك عن انه تعمد الاعلان عن ذلك بعد وقت قصير من اجتياح المدينة، ليقول "انه بالسيطرة على الموصل واحتلالها بات العراق كله تحت قبض "داعش"".
وبالفعل فإن "هذه الخطوة تركت أثرًا نفسيًا ومعنويًا سلبيًا كبيرًا على فئات وشرائح اجتماعية عديدة من داخل الموصل وخارجها، في اطار الحرب النفسية التي افلح الدواعش في وقت من الاوقات ادارتها وتوجيهها بالشكل الذي حقق لهم مكاسب مرحلية.
بيد ان البغدادي وقيادات "داعش" الأخرى، لم يدركوا أن المنهج الدموي الاجرامي التخريبي الذي انتهجوه ضد مختلف الفئات والمكونات والمقدسات والمعالم والرموز الثقافية، راح يغير موازين القوى شيئًا فشيئًا لغير صالحهم، فسبي واغتصاب المئات من النساء الايزيديات، وتدمير قبور ومراقد ومقامات الانبياء والاولياء والصالحين والجوامع في الموصل وغيرها، واستخدام كل أساليب ووسائل العنف والارهاب في التعامل مع الناس، أحدث ردود أفعال قوية، تحولت فيما بعد الى مظاهر رفض عملية، ترافقت مع قيام المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية بامتصاص صدمة الانكسار الأولى واعادة تنظيم صفوفها، الى جانب تأسيس الحشد الشعبي والحشد العشائري، وهو ما أفضى الى أن يفقد "داعش" سريعًا المكاسب التي حققها بصورة بدت مباغتة وعلى حين غرة بحكم وظروف وعوامل مختلفة لسنا بصدد الخوض فيها هنا.
وبعد ثلاثة أعوام بالتحديد، لم يكن بإمكان البغدادي وعموم قيادات "داعش"، استيعاب وتقبل حقيقة هزيمتهم وانكسارهم، وليتركوا المكان الذي أعلنوا فيه دولتهم المزعومة، ألا وهو جامع النوري، لذا أقدموا على تدميره بصورة شبه كاملة قبل أن يلوذوا بالفرار، وهذه الخطوة الاجرامية التخريبية، كانت مؤشرًا واضحًا وجليًا على بداية النهاية لوجودهم في العراق، وبالفعل، بعد خمسة أشهر استيعدت الموصل من قبضتهم بالكامل، وتم الاعلان عن تحقيق الانتصار الناجز والشامل على "داعش" في التاسع من كانون الاول - ديسمبر 2017.
ولا شك أن الجماعات والتنظيمات الارهابية التكفيرية تلتقي، على اختلاف مسمياتها وعناوينها وتوجهاتها وانتماءاتها وأجنداتها، عند نقطة واحدة، ألا وهي التجاوز على الحرمات وانتهاك المقدسات وتدمير الثقافة بكل أشكالها ومعالمها، سواء كانت مراقد دينية، كما فعل تنظيم القاعدة باستهداف مرقد الامامين العسكريين عليهما السلام في مدينة سامراء في شباط - فبراير 2006، ناهيك عن استهدافه لأعداد كبيرة من المراقد والأضرحة والمساجد والحسينيات وعلماء الدين في النجف وكربلاء والكاظمية ومدن أخرى، وكما فعل تنظيم "طالبان" بتدميره آثارا تعود للديانة البوذية في مدينة باميان الافغانية في شهر اذار-مارس 2001، وكما فعلت جبهة "النصرة" وما يسمى بكتائب "الفاروق"، حينما أقدمت في شهر ايار/مايو 2013 على تدمير مرقد الصحابي الجليل حجر بن عدي في مدينة عذرا السورية ونبش قبره واخراج الجثمان منه، وهناك الكثير من الممارسات والسلوكيات المشابهة والمماثلة لذلك، ولعل تدمير جامع النوري واحدا منها.
والملفت أن أيّا من تلك الجرائم لم تعد بالنفع والفائدة الحقيقية لمرتكبيها، بل إنها انعكست سلبًا عليهم، لأنها أظهرت وجههم الحقيقي، وطبيعة اجنداتهم ومشاريعهم ومخططاتهم التدميرية لكل ما هو مقدس وذي قيمة دينية أو تاريخية، اأو انسانية على وجه العموم.
رفع الاذان من جامع النوري في السادس والعشرين من شهر حزيران/يونيو الماضي، أي بعد حوالي ستة أعوام على احتلاله، وثلاثة أعوام على تدميره من قبل "داعش"، ينطوي على رسالة مهمة للغاية، مفادها أن ثقافة التكفير والقتل والتخريب والتدمير لا يمكن لها ان تسود، وان الانتصار العسكري على "داعش" لم ولن يكتمل الا بالانتصار المعنوي، الذي مثل انطلاق شعار "الله اكبر" من جنبات جامع النوري أحد معالمه ومؤشراته وملامحه ودلالاته العميقة والبليغة والمعبرة.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024