معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

18/06/2020

"العهد" أصل الحكاية.. شغف الحبر واعتناق الهوية

محمد أ. الحسيني

الحديث عن "العهد" يعيدني بالذكرى إلى بدايات "فكّ الحرف" في سنواتي الأولى لعهدي مع الكلمة، حيث كان نطقي للحروف طريقي إلى "غلّة" وفيرة من السكاكر التي كان يغدقها عليّ الكُبّار من رفاق جدي.. كان يجلسني على ركبته لأقرأ له الجريدة محاطاً برجال لا يتوقفون عن التهليل لطفل يقرأ لهم الأخبار وهو لم يتجاوز عمره أعواماً خمسة، ولكن ولعي الأكبر، الذي لم يعرفه جدي ورفاقه، كان في أني كنت أسكر برائحة الحبر في كل مرّة أفتح فيها الجريدة.

رافقني الولع المُسكر فتيّاً حتى سكرت مرة أخرى بسماعي ذلك الشاب واقفاً على مدخل مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد، حيث البذار الأول لحقل الجهاد في مشتل المقاومة.. كان يتأبّط كومة جرائد ويصدح بصوته: "إن العهد كان مسؤولّللا" (مع الشدّة على حرف اللام)، فطربت بالصوت ليهفو قلبي إلى ثمالة جديدة.. لم أكن أملك ثمن الجريدة، فاقتربت لأقرأ عنوان صفحتها الخارجية وبعضاً من تفاصيل ظاهرة تحت ساعده، ولأتنعّم برائحة حبر جديد شاء الله أن أغرف منه لأخطّ فيه باكورة مقالاتي، وهكذا كانت خطوتي العهديّة الأولى.

لم أكن ابتعدت كثيراً حتى سمعت دويّ الانفجار الذي عصف بشارع بئر العبد عام 1985، فقد كنت آنذاك في مكتب "العهد" أتعرّف على ألف باء النظم، فقد دفعتني حشريتي لمعرفة الكتّاب العهديين الذين يختبئون خلف أسمائهم المرمّزة تحت كل مقال كنت أقرأه، تحدثّت حينها بحماس عن حضوري في واقعة الدفاع عن مسجد الرسول الأعظم (ص) على طريق المطار عام 1983 في مواجهة السعي إلى هدمه، فكانت شهادتي في الحدث محور تحقيقي الأول، وكم افتخرت بانتمائي العهدي حين قرأت اسمي المرمّز مذيّلاً "هيثم ناصر".

تنقّلت "العهد" إلى عناوين جغرافية كثيرة، وكانت في كل انتقال تكبر في اتّساع مساحتها، وتزداد في أفرادها فرقها، وتنضج في عناوينها ومضامين صفحاتها، وتمتدّ في انتشار رسالتها، وكنت ألاحقها كما قلب الواله لحبيبه الأول حين يظمأ، فأعود إليها منبعاً أول، وأعاود تلوين أصابعي بحبرها الذي كان ينطبع على كفّيّ وأنا أقصّ مقاطع المواد المطبوعة لأساعد في لصق وبناء تصميمها الفني.

خرّجت "العهد" أفراداً وقيادات وكوادر علمية وفكرية وشهداء وجرحى، ودوّنت أقلام هؤلاء حروفهم في كتاب حزب الله والمقاومة، وأسهم بعضهم في بث أثير إذاعة (النور) وشاشة تلفاز (المنار) ومراكز بحث ودراسات ومجلات دينية وثقافية، وارتقى آخرون في منابر الكلام ومنصّات المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتؤكد "العهد" مركزها المحوري ودورها الأساسي كمدرسة ومنشأ، ولا تزال كذلك في عصر الفضاء الالكتروني والعوالم الافتراضية.

كان واحداً من أصعب التحدّيات التي كان يواجهها "أبناء العهد" هو في انعتاق القيد من كتم الهوية، حتى لو استلزم ذلك بذل التضحية بالنفس، ومن تجليّاتها "تهريب" الجريدة إلى داخل الشريط المحتل مع العابرين من بيروت على حواجز العدو وعملائه عند بوّابات العزل والقهر، فمنهم من كان يخبئها في أوعية السكر والأرزّ، ومنهم من كان يضعها داخل غلاف بلاستيكي ويجعلها في قعر "تنكة السمنة"، ومنهم من كان يرتديها تحت ثيابه، ومنهنّ من كنّ يجعلنها قماطاً تحت الحجاب والمنديل واللباس، فكان يكفي لدى الاحتلال أن يجد نسخة من الجريدة مع أحد العابرين ليقتاده إلى زنازين الاحتجاز بتهمة الانتماء للمقاومة، فأصبحت "العهد" كشحنة سلاح أو صندوق ذخيرة تهدّد العدو، وفي المقلب الآخر كانت كرسالة من مُبعَد أو مسافر يتناقلها المشتاقون ترياق حياة وقطرة عشق.

لعلّي أدين لجدّي نزوعي للإعلام والصحافة الذي شغفني منذ أن انطلق لساني، ولم تكن "العهد" مجرد جريدة أقرأها بل شكّلت مدرستي الأولى، ليس في مسار الإعلام الخبري والتحليل السياسي فحسب، بل لأنها مثّلت صوت المقاومة تأريخاً وثقافة وهوية، حتى أصبحت رمزاً لمسيرة وشعاراً لنهج، ولم يعد بالإمكان فكّ الارتباط بين العهد كجريدة واسم، وبين حزب الله والمقاومة كخطٍ وانتماء، فمن يشترِها كأنه يتبرّع للمقاومة، ومن يقرأها كأنه يعيش دقائق المراحل، ومن يقتنِها كأنه يعلن انتماءه الذي يؤمن به ويحفظ فيه التاريخ، فإن العهد كان مسؤولاً.

الانتقاد

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف