معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

السيد نصر الله: ومن نكد الدهر..
23/03/2020

السيد نصر الله: ومن نكد الدهر..

ايهاب زكي

من المعيب أن يسقط باحثٌ في فخ محاكمة التاريخ بمنطق الحاضر، وهو عيبٌ فيه الكثير من الجهل حد السذاجة، وهذا ينطبق على محاكمة دولة مثل لبنان على اعتبارها دولة مركزية. فأنت حين تقدم دفوعك القانونية بناءً على هذه الحيثية تكون إمّا مغرضاً أو ساذجاً، فلبنان دولة قائمة بالتراضي حيناً والجبر أحياناً، فكل الخيارات دون ذلك سيئة، وفي ظل هذا التعايش بين المتناقضات الذي قد يكون ساحراً في بعض أوجهه، هناك هيكل بعنوان الدولة، يبدو حلف المقاومة أكثر الأطراف حرصاً على استدامته بل وتعزيزه، وهذا الهيكل على لامركزيته وكل ما يعتريه من آثار التناتش المحلي والإقليمي والدولي يظل هو الجدار الأخير، وهو بالنسبة للمقاومة جدار يستحق التشبث به بالأظافر والأسنان وإسناده بكل مقومات البقاء. والمفارقة أنّ هذا الهيكل بحد ذاته هو رمز الضعف كما هو رمز القوة في آن، فهو الاتجاه الوحيد الذي يستطيع اللبنانيون مجتمعين توجيه سهام النقد له كطرفٍ مقتدر، رغم أنّ كل طرفٍ يقبض على جزءٍ من هذا الهيكل كطرفٍ مستباح.

قال السيد نصر الله إنّ الحكومة اللبنانية لم تكن على دراية بقضية الإفراج عن الفاخوري، وهي الجهة التنفيذية المخوَّل بها في أيّ دولةٍ مركزية التعاطي مع هكذا أحداث، لذلك يجب الابتعاد عن نمطية محاكمة لبنان الرسمي، إن أردنا مواجهة الحقائق كما هي دون لوثة الخوف بفعل الهروب الدائم من الحقيقة. ولكن الأشد سوءًا من محاكمة الرسمية اللبنانية، هو الذهاب لمحاكمة ما يفترض أنّها قدس أقداس اللبنانيين، وهي المقاومة التي جعلت من لبنان الصغير بحجمه الجغرافي كبيراً في أهميته الجيواستراتيجية، وهي التي جعلت من لبنان أيقونة عربية في الصراع العربي"الإسرائيلي"، فكيف إذا كان هذا الجلاد هو ذاته الخصم الذي ما انفك يهاجم المقاومة كونها فقط تحمل سلاحاً لمواجهة"إسرائيل"؟ وهذا يشبه "بروباغندا" غوبلز، حين خاض معركة إقناع الألمان بتفوق العرق الآري، ووضع مواصفات الطول واللون والصحة البدنية، وغير المطابق لتلك المواصفات فهو من الحثالات، في الوقت الذي لم تكن فيه تلك المواصفات تنطبق على "غوبلز" شخصياً، فقد كان أسمر لا أبيض، وشعره أسود لا أشقر، وكان أعرج، كذلك يأتي يأتي هؤلاء ليخوضوا معركة محاكمة المقاومة أنّها تصافقت مع الولايات المتحدة، رغم أنّهم لا بيضٌ ولا شقرٌ ويعانون من عرجٍ بيّن في مفهوم وطبيعة ومصيرية الصراع العربي"الإسرائيلي" .

لا أعرف إن كنت غير متابعٍ جيدٍ للنشرات الإخبارية، ولكنّي لم أسمع أنّ حزب الله أعلن عن قيامه بعمليةٍ أمنية لاستدراج الفاخوري إلى لبنان، كما لم أسمع أنّ الحزب قام بالتحفظ عليه في مكانٍ آمن لمحاكمته ثورياً أو استدراج صفقة مع أمريكا أو"إسرائيل"، إذاً تحميل حزب الله المسؤولية كجهةٍ حزبية هو مسألة منتفية أصلاً لانعدام الموجبات، ومن نكد الدهر كما قال السيد نصر الله "أن يأتي يوم أظهر فيه للدفاع عن المقاومة بشأن عميل إسرائيلي قاتل مجرم لعدوٍ نحن هزمناه وقاتلناه وعذبنا واعتدى علينا". ومن نكد الدهر أن تُستنزف الأقلام وتجف الحناجر في محاولة الدفاع عن المقاومة، في أمرٍ هو هويتها وكينونتها وعلة وجودها وبقائها، مع أنّ المنطق يأبى إدخال المقاومة قفص الاتهام، بل يجب أن تكون على منصة الادعاء دائماً في مضمار الصراع مع العدو، قد يعتبر البعض أنّ هذا تجنٍ على الرأي الآخر، أو أحد أوجه الحجر أو إرهاب فكرٍ للآخرين، ولكن الإرهاب الفكري لا يتسق مع سمو القيم العليا، فحين أقول لك مثلاً إنّ الفتنة حرام، فهذا قطعاً ليس إرهاباً فكرياً أو حجراً على حركة دماغك، قد يكون حجراً على رغباتك ومصالحك وخناسك ووسواسك أجل.

فقرة وجْدُوسياسية

في مناسباتٍ عدة رأيت السيد نصر الله غاضباً، لكنه الغضب المفزع الذي تنخلع له قلوب العدو، وهو غضبٌ يشفي الصدور التي نشوتها الكرامة، أمّا ما رأيته في تناوله لقضية الفاخوري، فهو غضبٌ مرير، رغم أنّ الأذن هي المسؤولة عن جارحة السمع، إلّا أنك تشعر بالمرارة في حلقك، مرارة حدّ أنها إجهاضٌ لكل اللغات، فيموت الكلام على حدود الحنجرة، وتبدأ باستحضار كل ما اكتسبت منذ حروفك الأولى، كي تنأى بالسياسة عن وجدانياتٍ إنسانيةٍ شخصيةٍ لا تقدم ولا تؤخر، فتنوء تحت ثقل إرث إنساني صفَّد السياسة بالأخلاق وسربلها بالصدق، فالسياسة بمفهومها الشائع متفلتةٌ من أيّ قيودٍ، عارية بالكذب والنفاق بلا خجلٍ أو وجل، حتى أنّها لا تقبل هذه القيود مهما كانت حبكتها الأخلاقية رخوة. لذلك فلا منأى للسياسة في عقل السيد نصر الله عن سوط الضمير لا صوته فقط، وعليه فإنّ جمهور المقاومة لا يستمع لحديث السيد نصر الله بتجرد احتراف السياسة أو التحليل، لأنّه يخاطب القلوب كما يخاطب العقول، وإن تجردت من قلبك حال استماعك للسيد نصر الله، فأنت قطعاً قد زهدت بالفهم، وفاتك الكثير مما قال، والأهم فاتك الأكثر مما عنى وما إليه رمى، ومن نكد الدهر أن يتنطع من كانت أفئدتهم هواء للتحليل والرد على كلام السيد نصر الله.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف