معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

لجان التحقيق البرلمانية في لبنان: رقابة السلطة التشريعية
30/08/2019

لجان التحقيق البرلمانية في لبنان: رقابة السلطة التشريعية "المتأخرة"

أسامة رحَّال *

ضمن الورقة التي قدمها للبحث في أزمة الأنظمة الديموقراطية الدستورية  يذهب إلن كندي (Ellen Kennedy) للقول بضمور دور السلطة التشريعية في القرن العشرين، ضمور حصر دور هذه السلطة في تنفيذ إرادة السلطة التنفيذية ـ الإجرائية. ويفسر كيندي أحد أسباب هذه المشكلة في كون القيود الموجودة ـ أو الواجب وجودها ـ لحصر عمل السلطة التنفيذية تضعف أو حتى تنعدم في ظل الأزمات، في إشارة إلى حالة الطوارئ أو/و الأنظمة الاستثنائية.

على أي حال، تبقى معضلة دور السلطة التشريعي أعمق من ذلك، خصوصًا في الأنظمة البرلمانية التي تقوم -كلاسيكيًا- على الجمع بين عضوية الحكومة والبرلمان، الأمر الذي أدى مع تطور بنية الأحزاب السياسية وطرائق عملها، إلى جعل الحزب صاحب الأكثرية البرلمانية قابضًا إلى جانبها على زمام الحكومة وتاليًا زمام السلطة التنفيذية. وبهذا تتبلور أزمة الرقابة البرلمانية على الحكومة، فرغم وجود معارضة برلمانية، يبقى الاصطفاف والتكتل السياسي الحزبي في أغلب الأحوال حائلًا أمام قيام السلطة التشريعية بإجراءات رقابية فعّالة، في ضوء الأكثرية النيابية التي تحوزها الحكومة، كما في إطار تشرذم المعارضة في حالات عديدة.

تقف طبيعة النظام الهجينة وخصوصيته كعائق ـ إضافي ـ أمام قيام رقابة برلمانية حقيقية على السلطة الإجرائية

من هنا، يمكن الحديث عن الدور الرقابي للسلطة الإشتراعية اللبنانية في وجه جنوح السلطة الإجرائية بشكل عام، والحكومة بشكل خاص. فلبنان الجمهورية الديموقراطية البرلمانية بحسب الفقرة "ج" من مقدمة الدستور أخذ بديدن النظم البرلمانية ـ الكلاسيكي ـ وسمح مشرعه الدستوري في المادة الثامنة والعشرين بالجمع بين النيابة والوزارة، بيد أنّه ـ أي المشرع ـ جعل النظام إلى جانب كونه جمهوريًا ديموقراطيًا برلمانيًا، أولًا ميثاقيًا بناء على الفقرة "ي" من مقدمة الدستور، وثانيًا توافقيًا بناءً على روح الفقرة الخامسة من المادة الخامسة والستين من الدستور، وثالثًا طائفيًا ـ بشكل مؤقت ـ بناءً على الفقرة الثانية من المادة الرابعة والعشرين من الدستور اللبناني.

إذن تقف طبيعة النظام الهجينة وخصوصيته كعائق ـ إضافي ـ أمام قيام رقابة برلمانية حقيقية على السلطة الإجرائية. فوجود حكومة وحدة وطنية -التي هي جوهر الديموقراطية التوافقية- يعني انعدام المعارضة البرلمانية التي مع ضعف دورها في النظم البرلمانية في ظل استئثار حزب أو ائتلاف واحد بالأكثرية النيابية والوزارية  -كما سبق وذكرنا- تبقى مهمة بل وضرورة ديموقراطية.

مما يعني أنّ طرح الثقة بحكومة يشارك فيها كل أو أغلب الأحزاب السياسية البرلمانية أو بأحد وزرائها وفق أحكام المادة السابعة والثلاثين من الدستور اللبناني هو أمر غير ممكن أو غير مُجدي. وكذلك الأسئلة والاستجوابات التي لا فعالية لها دون إمكانية طرح الثقة بوزير أو بالحكومة في أعقابها.

لجان التحقيق البرلمانية  في لبنان: رقابة "متأخرة"

إذا بحثنا في نص قانون النظام الداخلي لمجلس النواب عن دوره الرقابي، نجد الباب الثالث منه والمعنون بـ "الرقابة البرلمانية"، قد أفرد في فصله الثالث تنظيمًا لعملية "التحقيق البرلماني". أي أنّ السلطة التشريعية تملك حقًا في أن تجري تحقيقًا متكاملًا "في موضوع معين". وتُنشأ لجان التحقيق البرلمانية بقرار من الهيئة العامة للمجلس، كما يمكن تخويلها أيضًا سُلطات هيئات التحقيق القضائية وفقًا لأحكام القانون رقم 11/72 الصادر في أيلول 1972. وقد أعطى المشرع في المادة مائة وواحد وأربعين من قانون النظام الداخلي لمجلس النواب لهذه اللجان صلاحية الاطلاع "على جميع الأوراق في مختلف دوائر الدولة وأن تطلب تبليغها نسخًا عنها وأنّ تستمع إلى الإفادات...".

ولا مفر من القول بأن ما قد قيل حول الأدوار الرقابية الأخرى للمجلس قد ينطبق على لجان التحقيق البرلمانية لجهة ضعف فعاليتها في ظل النظام اللبناني، إذ إنّ محمد المجذوب يعتبر ما يجب أن ينتج عن لجان التحقيق البرلمانية هو إثارة المسؤولية الوزارية وطرح الثقة بالحكومة ، مما يعني العودة إلى دوامة التجاذب السياسي. لكنّ أهمية هذه اللجان وخصوصيتها تكمن في قدرتها على خلق رأي عام ضاغط في الحالات التي تعطى حدًا أدنى من الجديّة في إبعادها عن زواريب الطوائف، سيّما إذا مُنحت سُلطات هيئات التحقيق القضائية،  فتكون دافعًا ـ ولو معنويًا ـ في إطار الجو العام للجهات القضائية، للتحرك من أجل وقف ما يمكن من حالات الهدر والفساد التي تعج بها البلاد. فعملية مكافحة الفساد ليست "كبسة زر"، بل هي تحتاج إلى البدء بفتح ثغرات في حصون الفاسدين، وسد الثغرات القانونية التي ينفذون منها، وفق خطط واقعية تدريجية، تسحب فتيل الاصطفاف السياسي والطائفي.

وعليه، سيكون التعامل مع طلب تشكيل لجنة تحقيق برلمانية حول ملف الإتصالات، والذي تقدمت به كتلة الوفاء للمقاومة، اختبارًا حقيقيًا لنية وعملية مكافحة الفساد داخل منظومة السلطة التشريعية، التي يقع على عاتقها إلى جانب دورها الرقابي، الدور التشريعي الأصيل، من خلال إقرار سلّة أدوات مكافحة الفساد من قبيل: قانون منع تعارض المصالح، قانون رفع السرية المصرفية عن المشتغلين بالشأن العام، وقانون الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بعيدًا عن القوانين الحالية التي تحمي الإثراء غير المشروع وتحصن الوزراء وتجعل يد الجميع "متأخرة" عن الفاسدين.

* كاتب حقوقي

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف