الخليج والعالم
العراق.. مصداق شعار "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء"
عادل الجبوري
بعد غروب الشمس، وحلول ظلام الليلة الأولى من شهر محرم الحرام، كالمعتاد، تنطلق مسيرة الحزن الحسيني العاشورائي في كربلاء المقدسة ومختلف مناطق ومدن ومحافظات العراق. ومن هذه اللحظات وحتى منتصف ليلة الحادي عشر من الشهر، تتجسد واقعة الطف الأليمة بكل تجلياتها الانسانية، وتفاصيلها التاريخية، وصورها الأبيّة في كل بقعة من أرض العراق، ليعيش المرء ويستشعر المقولة الشهيرة "كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء".
تبدأ مسيرة الحزن الحسيني العاشورائي، بمراسم استبدال الرايات الحمراء في مرقدي الامامين الحسين واخيه العباس عليهما السلام بالرايات السوداء، وهذا التقليد السنوي، لم يعد مقتصرًا على كربلاء، بل إن شتى المراقد الدينية المقدسة في طول البلاد وعرضها، دأبت على القيام بذلك.
الرايات والأعلام الحمراء والخضراء والسوداء مع حلول شهر الاحزان، تغطي الشوارع والأزقة وترفرف فوق البيوت والمباني المختلفة، وتطل من شرفات البيوت لترسم لوحة فريدة ومعبرة تكملها المظاهر الأخرى، من قبيل مجالس العزاء، ومواكب الزنجيل والمشاعل واللطم.
وفي كل ليلة من الليالي العشر الأولى لشهر محرم الحرام، يستعرض خطباء المنابر والرواديد جزءًا من واقعة الطف، وطبيعة الأدوار التي اضطلع بها أهل بيت الامام الحسين عليه السلام وأصحابه، وكيفية استشهادهم في أرض المعركة، حتى تصل تفاعلات الوقائع والاحداث ذروتها في ليلة وصبيحة اليوم العاشر، حيث المواجهة بين معسكري الحق والباطل، التي انتهت بانتصار الدم على السيف، واستشهاد الامام الحسين عليه السلام، وسبي حرائر الرسالة.
وبينما تشهد ليلة العاشر من محرم، مراسم واسعة يجري فيها استعراض مجمل الظروف التي سادت أجواء المعركة، لا سيما في بعدها الانساني والعقائدي والايماني لدى أهل بيت الامام الحسين(ع) وأصحابه، تخصص صبيحة يوم العاشر، لقراءة المصرع الحسيني في مختلف المساجد والحسينيات والهيئات، وسط مشاعر حزن وألم.
وبعد قراءة المصرع الحسيني، تأتي مواكب التشابيه واحراق الخيام، في اطار درامي تراجيدي للغاية، بينما تشهد كربلاء المقدسة ركضة طويريج التي يشارك فيها عشرات الآلاف من الزائرين، والتي تمتد حوالي أربعة كيلومترات، من أطراف المدينة لتنتهي عند ضريح الامام الحسين عليه السلام.
هكذا وحتى ينتهي نهار عاشوراء ويحل الظلام من جديد، تنطلق مواكب ايقاد الشموع، وقراءة الأدعية والابتهالات والصلوات احياء لما يعرف بليلة الوحشة، وليس من قبيلة المبالغة والتهويل اذا قلنا إن كربلاء المقدسة بالتحديد في يوم العاشر من محرم الحرام تحتضن كل العالم، لتعكس المقولة الخالدة: "كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء".
فلكربلاء خصوصية معينة، وذلك نظرًا الى أنها تحتضن ضريح الامام الحسين واخيه العباس عليهما السلام وعددًا من أصحاب سيد الشهداء (ع)، وبالخصوص حبيب بن مظاهر الاسدي، والحر بن يزيد الرياحي الذي يبعد مرقده عن مركز المدينة بحوالي خمسة كيلومترات. كما تضم كربلاء مثلت مسرح وميدان واقعة الطف، اذ فيها المخيم الحسيني، وتل الزينبية، وموضع الكف الايمن للامام العباس وكذلك كفه الأيسر، ونهر العلقمي، الى جانب مقام الامام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشرف)، ومقام جده الامام الصادق عليه السلام.
والأكثر أهمية والفاتًا للنظر، هو أن المرء أينما يولي وجهه في العراق، يجد المواكب الحسينية شاخصة، ويسمع شعارات لبيك ياحسين، وهيهات منا الذلة، و"ابد والله ما ننسى حسيناه".. ويرى مشاهد الحزن والالم واللوعة، التي تصوغها الأكف التي تضرب الصدور، والدموع التي تنهمر من العيون، والايادي التي ترتفع بالدعاء نحو السماء.
ولعل ما يستعصي على الحساب الدقيق، يتمثل بإحصاء الحشود المليونية للزائرين، وأعداد المواكب والهيئات الحسينية، وحساب كميات الطعام المقدمة، ومقدار الأموال المنفقة على حب الحسين(ع) ومصادرها. كل من يتوقف ويتأمل ويحاول أن يصل الى أرقام دقيقة أو قريبة من ذلك، لا بد ان يصل الى نتيجة مفادها أنه الاعجاز الالهي، وان كل ذلك من بركات وكرامات سيد الشهداء عليه السلام، ولابد ان يصل الى نتيجة مفادها ان الثورة الحسينية بكل امتداداتها الزمانية والمكانية، لا تحكمها لغة الارقام المادية، ولا المعادلات الرياضية، ولا الخطط والترتيبات الادارية، ولا الاجراءات والسياقات الامنية التقليدية. وما رأيناه هذا العام، وما رأيناه في الاعوام السابقة، وما سوف نراه فيما بعد، مشهد غير قابل للوصف، وغير قابل للتفسير، وربما غير قابل للتصديق.