لبنان
حين يزهر نيسان حكايةً "ملاك": الاستشهادي صلاح غندور... بسمة عنوانُها شهادة
في ذكرى العملية الاستشهادية البطولية للشهيد صلاح غندور على معبر صف الهوا في بنت جبيل نستعيد مقابلة أجرتها الزميلة فاطمة شعيتو مع زوجته قبل أعوام.
ذات يوم ربيعي دافئ، كان قلبه المطمئن يزغرد للعبور نحو أشرعة الشمس، محيّاه يبسم للقاء الحرية الورديّة، وجسده الطاهر يفيض شوقاً لامتطاء صهوة الموت الشجاع وافتراش تراب الجنوب.
وجده العارفون رجلاً مقداماً آلفت سيماه بين ضراوة الفرسان لدى اشتداد حرّ المعارك ونقاوة الملائكة حين تهبط الى الأرض كلّ نيسان حاملة رحمة السماء في زخّات المطر.
بسمةُ "ملاك" المقاومة ذاك توّجت سيرته برياحين العبادة، صبغت تاريخ الأمة بلون الريادة، وأبت مع رحيل الأيام أن تندثر، فأزهرت نصراً عزيزاً بعد نيله وسام الشهادة.
بسمة الاستشهادي صلاح غندور أرهبت سكون "إسرائيل"، طبعت بالأمل ذاكرة الأحرار وأفئدة المحبين، وهي لم تفارق برهةً ثغر زوجته حين روت لـ"الانتقاد" حكاية "ملاكها" بفخر وتؤدة... ونفحات حنين:
كان لقائي الأول مع الشهيد صلاح في مطلع التسعينيات، ولعّل الميزة التي بدت أكثر وضوحاً في شخصيته حينها هي هدوءُه، أما السبب الأساس الذي دفعني الى اختياره شريكَ حياة فهو أنه مجاهد في المقاومة، وقد حققت بذلك حلماً لطالما أردت تحقيقه تأسياً بالسيدة زينب (ع)، فكان أن استجاب الله دعائي بلقائي "ملاك".
لم تمحِ عقلانية الشهيد صلاح روح المرح في شخصيته، كان يهوى المزاح اللائق واختلاق "المقالب" اللطيفة في محضر أصدقائه، وهو لم يخفِ يوماً تشبّثه بخط المقاومة من منطلق إيماني عقائدي، كان يؤكد استحالة التخلي عن هذا النهج لقاء أي ثمن، متمسكاً في الوقت عينه بكتمان أسرار العمل الجهادي وطبيعة المهام الموكلة إليه.
على الرغم من انهماكه في أداء واجبه الجهادي، لم يُغفل الشهيد صلاح يوماً أداء المستحبات الدينية من صلاة وصيام، كان محبّاً لتلاوة القرآن، متعلّقاً بقراءة دعاء كميل، شديد المواظبة على زيارة الإمام الحسين (ع)، وكثير التردد الى المسجد.
شهادة المجاهد غسان علوية في بداية العام 1987 تركت الأثر البالغ في نفسه، فهو كان يحتل منزلة الصديق والأخ من نفسه، ولعّل أنباء الشهادة عظّمت لديه حافز مغادرة العاصمة بيروت للانضمام الى قسم العمليات في الجنوب، ناهيك عن شوقه الكبير للعالم العلوي وتعلّقه بأهل البيت (ع)، وإصراره على الالتزام بواجبه الشرعي في الدفاع عن أرض الوطن، وامتلاكه الكفاءة اللازمة للتخطيط والرصد في مجال تنفيذ العمليات.
جرت العادة أن أحضّر للشهيد صلاح العتاد و"زوّادة" الطعام قبل انطلاقه الى تنفيذ عمليات الرصد داخل الشريط الحدودي، فيُعلمني بمدّة غيابه ليخلق حالة من الاطمئنان في داخلي، خاصة أننا كنّا نسكن في منطقة نائية عن قلب القرية... قبل المرة الأخيرة التي عبر فيها الشريط لتنفيذه العملية الاستشهادية، وُلد في داخلي هاجسٌ أنبأني بشهادته عمّا قريب، وراحت تدور في رأسي أسئلة طيلة فترة غيابه: كيف سأتلقى خبر شهادته؟، هل سيأخذ الصبر محلّه في قلبي؟، كيف سنشيّع جثمانه؟... لم أتوانَ عن سؤاله، عندما سنحت لي فرصة رؤيته من جديد، "لأي أمر تخطّط؟"، فأجابني بعد إلحاح "تقدّمت بطلبٍ لتنفيذ عملية استشهادية، وأسألك الدعاء لتيسير الأمر".
في المرحلة عينها، كان الشهيد صلاح يرتقب الحصول على تأشيرة السماح بأداء فريضة الحج، وشاء الله أن يتم ذلك، إلا أن نيل شرف تنفيذ العملية الاستشهادية كان أقرب إليه من حيازته شرف زيارة بيت الله، أصرّ آنذاك على التقاط صور عائلية، وقد سبق ذلك لقاءٌ جمعه والأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله للحصول على إذنه بتنفيذ العملية.
في اليوم التالي، ودّع الأهل، ممّوهاً إنطلاقه الى العملية بخبر قبوله لأداء مناسك الحج، أوصاني شخصياً بالاهتمام بأطفالنا الثلاثة، محمد وفاطمة وزينب، أخبرني بأنني قد لا أراه ثانية بعدها، طالباً الدعاء.
حدث ذلك نهار الأحد في الثالث والعشرين من نيسان عام 1995، كان من المقرر أن ينفّذ الشهيد صلاح عمليته الإستشهادية نهار الإثنين، فحال دون ذلك التخوّف من وقوع مدنيين أثناء التنفيذ، فأّرجئت العملية الى يوم الثلاثاء.
بعد ظهر اليوم نفسه، وصلني نبأُ عن نجاح مجاهدي المقاومة الإسلامية بإنجاز عملية إستشهادية نوعية، امتلكني شعور قوي بأن "ملاك" بات في عداد الشهداء، صليّت ركعتين شكراً لله تعالى، وانتظرت الخبر اليقين... قُرِع باب المنزل، كان خلفه رفاق الشهيد قد أتوا يزفّون على مسمعي خبر استشهاد "ملاك" على أرض الجنوب... علَت البسمة جراحي، وغمر حزني شعور بالعزّ والفخار لا يوصف، فالله منّ عليّ بالسلوان، وهبطت على قلبي وصية الشهيد صلاح بالتصّبر سكينةً وطمأنينة!
حين يزهر نيسان حكايةً "ملاك": الاستشهادي صلاح غندور... بسمة عنوانُها شهادةفي الخامس والعشرين من نيسان عام 1995، أنزلت العملية الاستشهادية هذه الرعب في قلب العدو، وحصدت أصداءً إيجابية كبيرة في صفوف جماهير المقاومة، تماماً كحصدها جنود العدو بين قتيل وجريح، خاصة أن الشهيد صلاح اجتاز بسيارته المفخخة الشريط الحدودي، مقتحماً قافلتين أثناء القيام بعملية تبادل بينهما عند مدخل بلدة بنت جبيل، وكان ذلك إنجازاً إضافياً سُجّل في تاريخ المقاومة.
كان مسير الشهيد "ملاك" بسيارته المفخخة من الطيري وحتى مدخل مركز "الـ17" في بنت جبيل مفعماً بالتوفيق والألطاف الإلهية، فقد اعترض طريقه أحد الضباط الصهاينة، إلا أنه بهيبته وثقته العارمة بخطواته، جعله يظن أنه من عناصر العدو.... كان يودّ لو تكون زنة العبوة أكبر، شوقه العارم لتنفيذ عمليته الاستشهادية رسم البسمة على ثغره حتى اللحظة الأخيرة قبل كبسه زر التفجير، ومن آخر ما قاله لرفاقه المجاهدين "يلا بدكن شي؟ على بركة الله"، ثم اقتحم القافلتين منادياً "الله أكبر، لا إله إلا الله".
غاب الشهيد صلاح عن أنظارنا، إلا أنه حتى اليوم حاضر بيننا، وقاره يظهر في عيني ابنتنا فاطمة وخجل صغيرتنا زينب، وخط المقاومة الذي انتهجه متجذر في نفس ولدنا الأكبر محمد، هذا الخط الذي لن نتنازل عنه، بل واجبنا أن ندافع عنه ونحميه ونربّي أجيالنا على هديه... أمّا سلاح المقاومة، فهو مقدّس لدينا، ونرفض أي محاولة للمسّ به، وهو باقٍ بإذن الله تعالى حتى تحرير القدس الشريف ...".
إنتهى اللقاء من دون أن تجد فصول الحكاية كلمات النهاية، فمن هناك، شقّ المجد طريق البداية، من حيث رسمت دماء "ملاك" آفاق النصر الإلهي في أيار وتموز، عسى أن تزهر بسمته الواعدة نصراً حتمياً آخر خلف ذاك الشريط الذي عبره ذات نيسان... نصراً يورق على جدران القدس بخوراً، ريحاناً وأكاليل أقحوان!
نداؤه قبيل الشهادة
"أسأل الله أن يوفقني للقاء سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (ع)، هذا الإمام العظيم الذي علّم جميع الأحرار كيف ينتقمون من ظالميهم، إنني إن شاء الله بعد قليل من هذه الكلمات، سوف ألقى الله معتزاً، مفتخراً، منتقماً لديني ولجميع الشهداء الذين سبقوني على هذا الطريق.
بعد قليل، سوف أثأر لجميع المظلومين والمستضعفين من أبناء جبل عامل وأبناء الانتفاضة في فلسطين المغتصبة، سوف أنتقم لجميع المعذبين في الشريط المحتل المعذب، إنني إن شاء الله مجاهد من مجاهدي المقاومة الإسلامية، تلك المقاومة العظيمة التي لم ترهبها طائرات العدو ولا دباباته وكل الأسلحة التي يمتلكونها، ولا كل الدعم الذي يتلقونه من دول الكفر كافة".